بطولات من واقع "العبور" تحطمت عليها أساطير "بارليف"
صورة ارشيفية
الشوارع خالية فيما يتبادل الجميع التهاني، فاليوم عيد الغفران يُخصصه اليهود للصوم والصلاة فقط، يخيم الصمت يخيم علي الشوارع، وفجأة يقطعه دوي صفارات الإنذار، تدوي من الضربات الجوية للجيش المصري التي تستهدف القواعد الإسرائيلية في الثانية بعد ظهر السادس من أكتوبر 1973، تتبدل الأوضاع ويعم الهرج والهلع، وتتحول التهاني إلى صراخ وعويل.
على الضفة المقابلة للقناة، كانت الهتافات تعلو في نهار رمضان "الله أكبر"، وأعلام مصر ترفرف نحو الضفة الأخرى، إلى أن تمكن الجنود من تحطيم خط بارليف الدفاعي، وفتح ثغرات فيه وفي الساتر الرملي في ملحمة الانتقال إلى شرق القناة، مستخدمين مضخات المياه ذات الضغط العالي، لتتحطم مع عبورهم تلك الأساطير التي نسجها العدو وخبراء الغرب عن استحالة النفاذ إلى سيناء.مشاهدات ووقائع ونفير وحركة مدفوعة بالحماس والأمل والقوة عادت إلى الأذهان مجددًا أمس 25 أبريل، في الذكرى الخامسة والثلاثين لعيد تحرير سيناء، التي اعتاد المصريون الاحتفال بها كل كل عام.
كان خط بارليف، سلسلة من التحصينات الدفاعية تمتد على طول الساحل الشرقي لقناة السويس، بنته إسرائيل، بعد احتلالها سيناء في 1967، بهدف تأمين الضفة الشرقية للقناة، ومنع عبور أي قوات مصرية إليها، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى حاييم بارليف، القائد العسكري الإسرائيلي، وتكلف بناؤه حوالي 500 مليون دولار.
وبالعودة إلى صفحات التاريخ، يتضح أن فكرة تحطيم "بارليف" تولدت صدفة، لدى أحد الضباط المهندسين المشاركين في حرب أكتوبر، وهو اللواء أركان حرب باقي زكي يوسف، مسيحي الديانة، في أثناء حضوره أحد اجتماعات عرض اقتراحات لعبور القناة، استلهم "زكي" الذي كان يحمل وقتها برتبة مقدم، فكرة استخدام مضخات المياه لفتح ثغرات في الساتر الترابي، من فترة عمله كمنتدب في بداية الستينات، حيث كان يستخدم مضخات المياه لإزالة التراب، وهي الفكرة التي اعتمدها الجيش وبدأ تدريب قواته عليها.
أسطورة خط بارليف، حطمتها حكايات الواقع عن حبات التراب والرمال التي جرفتها المياه على شط القناة، وتناقلها أبطالها، على مدار 44 عامًا، مرت على النصر.
أحد أبطال هذه الحكاية، هو محمود عرفات، ضابط احتياطي بالشؤون المعنوية، تولى مسؤولية إعداد الجنود وتهيئتهم نفسيًا قبل حرب أكتوبر، وكان أحد المشاركين في العبور، حكى "عرفات" لـ"الوطن"، كواليس الاستعداد لحرب استعادة الكرامة، كما يحب دائمًا أن يصفها: "انتظرت هذه اللحظة على مدار 6 سنوات، وبالتحديد منذ عام 67، في مشهد الجنود الإسرائيليين عند بور توفيق -الذي كان يبعد 200 متر فقط عن معسكر جنود العدو- وهم يلوحون بإشارات بذيئة تحملها السباب لنا، لم يُمحى من ذاكرتي، وظل كالنار في صدري 6 سنوات، حتى اشتعلت في خط بارليف في 73".
يوم السبت الموافق 6 أكتوبر 1973، كان يوما عاديا بالنسبة لـ"عرفات"، إلى أن استدعاه رئيس أركان اللواء 14 العقيد محمد القاضي، مع قادة الفروع والوحدات إلى اجتماع طارئ لإبلاغهم أنه في تمام الساعة الواحدة وخمس وخمسون دقيقة، ستبدأ حرب استرداد الكرامة ضد العدو الإسرائيلي، وهو ما أصاب جميع الحضور بذهول شديد.
طلب رئيس الأركان من الحضور قراءة الفاتحة، وكان بينهم المقدم فوزي بشارة المسيحي، فقال له "القاضي": "اقرأ الفاتحة بتاعتكم"، يتذكر عرفات الأوامر التي وصلت يوم الجمعة 5 أكتوبر، ومنعت الجنود من تأدية صلاة الجمعة في المساجد الخاصة بالوحدات خوفًا من تنفيذ إسرائيل ضربة استباقية لهم.
يتابع: "لن أستطيع أن أنسي في أثناء عبورنا القناة، مشهد الطيران الإسرائيلي وهو يضرب بوحشية، وتحت ظلاله يخرج أهالي معبر سرابيوم، السيدات قبل الرجال، الذين خرجوا من كل صوب وحدب، يهتفون للجيش المصري ويحملون (الجبنة والطماطم والعيش للجنود علشان ياكلوا، تحت القصف".
بطولات كثيرة وفريدة من نوعها تجسدت في ملحمة العبور، كان اللواء أركان حرب مهندس حسن محمد السيد، عضو مجلس النواب حاليًا، أحد المشاركين في الملحمة، وشغل منصب مدير سلاح المركبات حتى 18 يناير عام 2011.
حَكَى "السيد" كيف أخرجت أكتوبر أبطالاً خارقين للطبيعة، من بينهم الرقيب أول مجند محمد عبدالعاطي، الملقب بـ"صائد الدبابات"، الذي تمكن من تدمير وقنص 23 دبابة بمفرده، ليحفر اسمه في الموسوعات الحربية كأشهر صائد دبابات في العالم.
قال "السيد": "بعد نجاح قواتنا في فتح ثغرات في خط بارليف، والتوغل في عمق القناة، حاولت القوات الإسرائيلية استعادة دفة المعركة من جديد، إلا أن عبدالعاطي، كان في انتظارها، واستطاع علي مدار 5 أيام اصطياد 23 دبابة إسرائيلية".
كان الرائد "سمير زيتون" أحد أبطال حرب أكتوبر، يحمل في جعبته حكاية من نوع خاص، غزلت خيوطها في أثناء خضوعه لتدريبات قاسية في قاعدة انشاص استعداد للحرب.
تعرض "زيتون" لإصابة خطيرة في أثناء التدريب على النسف والتدمير، وبُتر على إثرها ذراعه اليمنى، ورغم ذلك قرر المشاركة في حرب أكتوبر، فتولى قيادة الكتيبة 183 صاعقة، وخلال المعركة كان يقود إحدى طائرات الهيلوكوبتر، في مهمة وقف تقدم القوات الإسرائيلية عند المحور الأوسط بمنطقة الطاسة بشمال سيناء، ولمدة 12 ساعة لتمكين قوات الجيش من إنشاء الكباري لمساعدة القوات علي التمركز في مواقعها المحددة ضمن خطة العبور.
لم يعلم "زيتون" حينها أنه سيواجه معركة أصعب من تلك التي تسببت في بتر ذراعه خلال التدريب، حيث فاجأت القوات الإسرائيلية كتيبته بهجوم مباغت، أصيبت على إثرها طائرته واضطر إلى الهبوط، إلا أنه أصر على مواصلة القتال بنحو 50 مقاتلاً هم من تبقوا معه من جنود، وظلوا مسيطرين على الموقع ومنعوا تقدم القوات الإسرائيلية، لمدة 15 ساعة متواصلة، قبل أن تأتي الأوامر إليه بالرجوع بعد نجاح المهمة وتثبيت الكباري.