التقيتها صدفة أمام المصعد فى المنزل الجديد الذى انتقلت إليه، ولفت انتباهى ترددها هى والسيدة الستينية فائقة الجمال والأناقة المرافقة لها فى دخول المصعد معى، وكان الشبه بينهما يؤكد أنها الأم، وعندما أفسحت لها الطريق أمامى فوجئت بترحاب شديد وتهنئة بالمنزل الجديد، ولأننى توقفت أولاً أمام بيتى دعوتها لتناول فنجان قهوة، كما يفعل المصريون وكما اعتدت، فوعدت بذلك فيما بعد، وأدركت بعد أن سمعتها تتحدث لى أنها من بلاد الشام لأن اللهجة واضحة والجمال أيضاً، فقد أحسست أن جميلات الأربعينات والخمسينات فى مصر عدن للحياة مرة أخرى فى تلك السيدة، فملامحها تكسوها العزة والشموخ والكبرياء. وكدت أنسى هذا اللقاء إلا أننى بعد يومين فوجئت بها تطلب الحضور استجابة للدعوة السابقة منى.
وهنا تبدأ مقالة هذا الأسبوع لأصدقائى وأهلى وأحبتى أقول علموا أولادكم الحب ثم الحب ثم الحب وعلموهم كيف يستقبلون الضيوف والغرباء ويكرمونهم. أخبروهم أن الرسول الكريم محمداً صلى الله عليه وسلم قال فى حديثه الشريف (من كان يُؤْمِن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)، علموهم أن إكرام الضيف واستقباله بترحاب عمل محبب لله وصفة من صفات المسلم الصادق، فقد أصبحت «أم فواز» من أقرب الأصدقاء لى بسبب اللقاء الأول، وعندما تحدثنا معاً أحسست بوجع داخلها تحاول إخفاءه بكلمات المجاملة، وعرفت أنها جاءت للقاهرة كغيرها من أهالى سوريا بعد الأحداث الدامية هناك، وأنها لم تكن المرة الأولى لها التى ترتاد مصر، إلا أن الأمور تغيرت كثيراً معها فقد أحست بالغربة لأول مرة حيث لاحظت أن أغلب المصريين فقدوا ترحابهم بالغرباء وكأن هناك شيئاً داخلهم يخيفهم أو شكاً وقلقاً من تلك العشرة التى فرضتها عليهم الأحداث السياسية فى المنطقة وما آلمنى شىء فى حوارنا مع فنجان القهوة إلا قسمها بأننى الوحيدة فى الحى التى رحبت بهم يوم التقينا أمام المصعد.
من أجل هذا أقول علموا الأبناء أن الحب والعطاء والترحاب بالغريب بالكلمة والنظرة والإشارة من مكارم الأخلاق وجميل الخصال التى تحلى بها الأنبياء وحث عليها المرسلون واتصف بها الأجواد كرام النفوس، فمن عرف بالضيافة عرف بشرف المنزلة وعلو المكانة، وإن النبى صلى الله عليه وسلم ربط إكرام الضيف وصلة الرحم والقول الطيب الحسن بالإيمان بالله.
ويكفى أن الأحاديث النبوية يؤخذ منها وجوب إكرام الضيف بما يعد إكراماً بلقائه ببشر وسرور، ومن لم يكرم ضيفه فهو غير متبع لسنة محمد صلى الله عليه وسلم، والمضيف الحقيقى من يضيف من يعرف ومن لا يعرف.
عن أبى هُريرة، رضى الله عنه، قال: قال رسول الله: (من كان يُؤْمِن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه). وعن الكرم علموهم أن كلمة إكرام فى المعجم العربى هى مصدر أكرم بمعنى عظم ونزه وكذلك بمعنى التكريم والصون والجود، وجاءت الكلمة فى القرآن (ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام) فى سورة الرحمن، والإكرام فيها هو الفضل التام.
وفى التنزيل العزيز: (قال إن هؤلاء ضيفى فلا تفضحون) سورة الحجر.
وسورة الكهف (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما).
وأسمعوهم قول سيدنا عمر: (هذه تفاحة أكلتها ذهبت، أطعمتها بقيت).
وعلموهم أن إيذاء الجار من كبائر الذنوب، بل إنه منافٍ لكمال الإيمان عند الله عز وجل وقد، روى البخارى فى صحيحه أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (والله لا يُؤْمِن والله لا يُؤْمِن والله لا يُؤْمِن) قيل من يا رسول الله؟ قال (الذى لا يأمن من جاره بوائقه) أى لا يسلم من شره وأذاه.
أخبروهم أننا معشر العرب علمنا العالم كله الكرم والعطاء وأن أصدق دليل على ذلك أبيات الشعر العربى القديم التى عاشت حتى الآن بيننا تتحدث عن الكرم والضيافة، فقد قال سيف الدولة بن حمدان:
منزلنا رحب لمن زاره نحن سواء فيه والطارق
وكل ما فيه حلال له إلا الذى حرمه الخالق
ولا يمكن أن يغفل أبيات حاتم الطائى التى تدعو كلها لإكرام الغريب والضيف وغيره من الشعراء العرب.
وقد كتب د. نايف شعير، وهو أحد الكتاب السوريين، بحثاً عن شعر الطائى، فاعتبره ضرباً من معانى الكرم والقيم التى يفاخر بها العرب. وأشار إلى أن شعره جمع ما يبحث المرء عنه من معانٍ يتطلع إليها العربى حين يتحدث عن الكرم وإكرام الضيف ووصف الأجواد منهم فى جودهم وترحيبهم بالضيوف (بمطعمى الطير) فلكثرة الطعام المهيأ للضيوف كانت الطيور تشارك فى أكل الزاد.
وأشار فى بحثه إلى أن المجتمع الذى يشخصه لنا القرآن قوله تعالى (يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون فى صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)، هو تأصيل الإخاء الذى أسس عليه النبى الترابط الاجتماعى والجوار الذى يبنى عليه التعايش السكنى ويفسر هذه الظاهرة الخلقية الاجتماعية النموذجية.
وبعيداً عن «أم فواز» وما يجب أن نعلمه لأبنائنا فقد تعجبت عندما عرفت أن آخر الصيحات الدخيلة علينا فى عالم الشباب أنه فى أعياد الميلاد التى يحتفلون بها خارج المنازل يدعون الأصدقاء على أن يتكفل كل فرد بسداد قيمة المأكولات الخاصة به بدعوى أن هذا أفضل وأوفر للمحتفى به والمحزن أن يحدث هذا أيضاً بين المرتبطين والذين أوشكوا على الزواج عند الذهاب لتناول الطعام خارج المنزل أو قضاء بعض الوقت مع الأصدقاء، فأى عادات تلك التى أخذوها من عالم بعيد عنا؟ وهل حقاً نسوا أننا نحن المصريين أهل الجود والكرم؟ أحبائى رفقاً بالأبناء والأحفاد ورفقاً بالعادات المصرية الأصيلة واحذروا الغزو الاجتماعى لنا ولمجتمعنا.. حفظكم الله.