«الانفصال التام أو الموت الزؤام»، إنذار حاسم وجهه الرئيس محمود عباس لحركة حماس لرفع سيطرتها عن قطاع غزة أو إيقاف المساعدات، خطوة قد تزيد من تفاقم الوضع الصعب لدى سكان قطاع غزة، مما ينذر بتصعيد الأمور وصولاً إلى خلق حرب جديدة من قبل حماس مع إسرائيل، خيار قهرى ينتظره القطاع بعد الإجراءات العقابية القاسية التى اتخذها الرئيس «أبومازن» بحق أكثر من 60 ألف موظف تابع للسلطة الفلسطينية بحرمانهم من ثلث رواتبهم وتوعدهم بالمزيد من الإجراءات العقابية «فالمقبل أسوأ» على حد تهديده، الأمور تتداعى بشكل سريع، تهرول نحو الانفجار غير محسوب العواقب، وكرة النار تتدحرج سريعاً يتلقفها سكان القطاع المحاصرون الذين يعانون من الأمراض والفقر والبطالة وحروب التجويع والإظلام والتلوث، معادلة ظالمة وضعها أولو الأمر أمام الرعية وعليهم الاختيار إما الموت جوعاً وحصاراً أو انفصالاً وعزلاً عن محيطهم الجغرافى وتواصلهم التاريخى مع باقى الوطن، ليصبح «الانقسام» الذى ضرب وحدة الجغرافيا «شرعى» لا غضاضة فيه ولا غبار عليه، ولتصبح غزة بأزماتها ومشاكلها وأعبائها خارج حدود الاهتمام السياسى والاقتصادى والاجتماعى للسلطة الشرعية الفلسطينية ومقرها رام الله برئاسة محمود عباس.
ما تحمله رياح رام الله من تصريحات المسئولين فى السلطة تسوق المبررات والأسباب التى أدت إلى هذه الإجراءات، وفى كل تصريح يعمد المسئولون على التأكيد بأن المستهدف من هذه الإجراءات هى حماس التى تسببت فى الانقسام وليس أهالى القطاع الذين هم جزء أصيل من المكون الفلسطينى، فلا يعقل أن تستمر الحكومة تدفع وحماس تحكم! كلام جميل لكنه لا يعدو كونه إطلاق بالونات اختبار فى سماء غزة لاختبار قدرات حماس واستعداداتها على تحمل المقبل الأسوأ الذى وعد به أبومازن، ويبدو أن الأخيرة تهيئ نفسها لهذا الأسوأ عبر التهديد والوعيد والكلام الرشيد الذى تصدره بين الحين والآخر فى تصريحات مسئوليها وقياداتها.
فهل حركة حماس قادرة على مواجهة هذه اللحظة الفارقة فى تاريخ القضية الفلسطينية؟ وهل السلطة الفلسطينية قادرة على تحمل تداعيات هذا الانفصال سياسياً واقتصادياً واجتماعياً؟
إن قدرة حماس العسكرية تجعلها مؤهلة وواثقة من خطواتها على الأقل الأمنية بشد الأحزمة والضرب بيد من حديد على كل من يخرج عن سياساتها، غير أن القبضة الأمنية والقمعية لمواجهة أى تمرد متوقع فى القطاع لن تؤهلها للسيطرة على مليونى مواطن يعانون الفقر والحاجة والتسول، فقدراتها المالية لن تفى بالغرض ولن تستطيع حل مشاكل مستعصية كالكهرباء والغاز والصحة ورواتب الموظفين، خاصة أن صنبور الدعم المقبل من الحليف الإيرانى قد أُغلق والدعم القطرى والتركى مرهون بالرضا الأمريكى وله حساباته السياسية التى خرجت عن المخطط له، ومنافد الخروج والدخول لسكان القطاع مغلقة وبالذات معبر رفح البرى المنفذ الوحيد لسكان القطاع للتواصل مع العالم الخارجى، أما مجالها البحرى فتسيطر عليه إسرائيل وتراقبه على مدار الساعة، ووكالة غوث اللاجئين الأونروا تهدد بالرحيل، فقدراتها الخدمية واللوجيستية التى تقدمها للاجئين الفلسطينيين لم تعد تحتمل الأعباء الثقيلة الملقاة على عاتقها فى ظل شح الموارد ونقص التمويل، ولم يعد فى جعبة حركة حماس من أوراق اللعبة سوى التلويح بالدخول فى حرب محدودة ضد إسرائيل تعيد الأنظار مرة أخرى إلى قطاع غزة ولفت الانتباه الدولى للمعاناة والكارثة الإنسانية التى وصل إليها بسبب سياسة الحصار وضرورة معاقبة إسرائيل على ما آل إليه الحال، وفى الوقت ذاته إلهاء الداخل بالتوحد لمواجهة عدوان إسرائيلى جديد ينسيهم أزماتهم الداخلية الطاحنة.
فماذا عن القيادى المفصول من حركة فتح محمد دحلان؟ أين سيكون موقعه فى خريطة الصراع الدائر على قطاع غزة؟ دحلان الذى يملك جزءاً من قواعد اللعبة ما يؤهله لاستعادة دوره القيادى فى القطاع، خاصة أنه ما زال يتمتع بنفوذ ومؤيدين فى غزة، ويمتلك القوة وسطوة المال والأهم الدعم السياسى من دولة الإمارات ومصر وقنوات اتصال بالمجتمع الدولى، هل يتحالف مع حركة حماس ويقدم لها الدعم من خلال الوساطة لدى مصر لفتح معبر رفح لتسهيل الحياة الإنسانية على المواطنين؟ أم يستثمر الأوضاع السائدة لاستعادة دوره القيادى والمؤثر فى القطاع؟ وإلى أى مدى ستسمح حماس لدحلان بالتدخل؟ الأيام حبلى بالتفاصيل وربما المفاجآت التى قد تقلب موازين المشهد السياسى الفلسطينى رأساً على عقب، بينما يستعد الرئيس أبومازن للقاء الرئيس الأمريكى بداية الشهر المقبل فى هذا الجو الملتهب المشحون بالاحتقان وعلى شفا الانفجار، لقاء لا يدعو للتفاؤل، خاصة أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب لا يملك رؤية محددة تجاه حل الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى ومن غير الواضح ماذا يريد؟! فأى عملية سياسية لن تكون فى مصلحة الفلسطينيين ما لم تترافق مع ضغط أمريكى على إسرائيل لوقف الاستيطان والقبول بحل الدولتين، وهذا ما لا يلوح فى الأفق، والأهم رأب الصدع وترميم الشرخ الحادث فى وحدة الصف الفلسطينى الذى قد يهدم المعبد على من فيه.