المدارس الخاصة: أرباح الملاك بالملايين وأجور المدرسين «ملاليم».. والرقابة غائبة
تلاميذ إحدى المدارس الخاصة فى طابور تحية العلم
فى الوقت الذى يحقق فيه معظم أصحاب المدارس الخاصة أرباحاً خيالية، فإنهم يدفعون أجوراً زهيدة جداً وغير عادلة إلى المدرسين العاملين بمدارسهم دون أدنى تدخل من وزارة التربية والتعليم أو الحكومة، لتتحول المدارس الخاصة من مدارس تعليمية لها أهداف تربوية إلى مجرد مشروعات استثمارية هادفة للربح فقط، تهتم بالطالب، الذى تعتبره مجرد «سلعة» تدر مالاً وحسب، على حساب المدرس، حجر الزاوية فى العملية التعليمية، وتضحى به فى أول أزمة تحدث بينه وبين الطالب.
«الوطن» تفتح ملف مدرسى المدارس الخاصة، ومعاناتهم المستمرة مع أصحاب هذه المدارس الذين يتعاملون معهم على أنهم مجرد «أبليكيشن» عمل، موجود ضمن قائمة طويلة تضم آلاف الباحثين عن عمل، بمنطق تجارى بحت، وطالب الكثير من مدرسى المدارس الخاصة بتفعيل دور وزارة التربية والتعليم فى الإشراف مالياً وإدارياً على المدارس لضبط العملية التعليمية بداخلها، حيث يعتمد طلاب وتلاميذ هذه المدارس على الدروس الخصوصية، مثلما يحدث فى المدارس الحكومية رغم تسديد المصروفات الدراسية التى تبدأ من 4 آلاف جنيه وحتى 100 ألف جنيه فى العام الواحد.
«خالد»: «الطلبة بيعاملونا بطريقة مهينة على اعتبار إن رزقنا فى جيوب أولياء أمورهم».. و«حسين»: «بنقبض 9 شهور فى السنة فقط و90% من مرتبات المدرسين أقل من 1000 جنيه رغم ارتفاع أسعار كل السلع»
توكل قاسم، 27 سنة، مدرس علوم، يعمل مدرساً بالمدارس الخاصة منذ 4 سنوات، بدأ حياته العملية عقب تخرجه عام 2012 فى إحدى المدارس الخاصة بمنطقة عين شمس، شرق القاهرة، بأجر يبلغ 450 جنيهاً، وبسبب ضعف الأجر انتقل العام الماضى للعمل فى إحدى مدارس 6 أكتوبر الخاصة براتب شهرى 600 جنيه، يحكى «توكل» معاناته فى البحث عن وظيفة بأجر مناسب قائلاً: «رحت السنة اللى فاتت أدور على شغل فى 6 أكتوبر، ولما قابلت المديرة قالت لى الراتب 600 جنيه، قلت لها أنا خبرة كام سنة فى الشغل ومعايا شهادات بكدا، قالت لا الشهادات دى ليك انت بس، لكن إحنا مالناش دعوة بندفع 600 جنيه فى الشهر، الغريب فى الموضوع إن المدارس دى غير رسمية ومش واخدة تصريح من وزارة التربية والتعليم».
يضيف مدرس مادة العلوم قائلاً: «إدارة المدرسة تغرى المدرسين بالعمل فى الدروس الخصوصية، لأن هذه المدارس للأسف تحولت إلى مدارس حكومية من حيث المضمون؛ كثافات مرتفعة ودروس خصوصية فى كل المواد، مع إضافة مصاريف المدرسة بالطبع، لكن أنا كاره للدروس الخصوصية تماماً لأنها تنال من كرامة المعلم، وتوقفت عن تقديم الدروس الخصوصية بعد موقف أصابنى بالدهشة والشجن».
«الأشقر»: طالبت بإشراف «التربية والتعليم» على التعاقد بين المدرس والمدرسة دون جدوى.. و«عبدالله»: كنت أتقاضى 1200 جنيه وتركت العمل بسبب خلاف مع صاحب المدرسة.. و«توكل»: مرتبى 600 جنيه والإدارة تغرى المدرسين الجدد بالدروس الخصوصية
يروى «توكل» تفاصيل الموقف الذى جعله كارهاً للدروس الخصوصية قائلاً بنبرة منخفضة ممزوجة بالحزن: «كنت بدى درس خصوصى لتلميذة فى سنة 5 ابتدائى، وقالت: ليه يا مستر بتعاملنى زى منة صاحبتى؟ قلت وإيه المشكلة؟ قالت عشان انت فى المدرسة بتعاملنا زى بعض بالظبط، مع إنها ما بتاخدش عندك درس وأنا باخد، رديت عليها وقلت الدرس انتهى ومش هديكى درس تانى، وبطلت دروس من ساعتها، لأن الطلبة بيعاملونا بنوع من الترفع والنرجسية، طول الوقت بيحسسونا إنهم هما اللى بيقبضونا، فيه طالب بالفعل فى الإعدادية قال كدا لزميل لنا فى المدرسة، الطالب شايف إنه أهم من المدرس فى المدارس الخاصة، لأن الإدارة بتدلعه وبتنفذ كل طلباته دا غير إنه عارف إن المدرس اللى واقف قدامه وبيشرح كويس بياخد 600 جنيه فى الشهر».
يتابع «توكل» قائلاً: «99% من المدارس الخاصة عبارة عن مشروعات استثمارية فقط، هدفها الأول والأخير الربح دون النظر إلى مستوى الطلاب، والدليل أن كل الطلاب يأخذون دروساً خصوصية فى كل المواد تقريباً، ليس هذا فحسب، الكثافة فى الفصول مرتفعة أيضاً فى بعض المدارس تصل إلى 40 طالباً لكل فصل، وهذا عدد مقارب لنفس كثافة الفصول الحكومية، ورغم حصول أصحاب المدارس على أرباح كثيرة جداً من مشروع المدارس الخاصة، فإنهم لا يقدرون المدرسين، ويضغطون عليهم طوال الوقت بسبب كثرة عدد المدرسين والخريجين، لكن أهم شىء السلعة التى تدر مالاً وهو الطالب، وللأسف أولياء الأمور لديهم عقدة كبيرة وفلسفة خاطئة فى هذا الشأن، يظنون دائماً أن التعليم الخاص الذى يدفع له المال أفضل من التعليم الحكومى، من خلال التجربة الفرق بسيط بين النموذجين، لأننا فى الأساس خريجو مدارس وجامعات حكومية».
محمود حسين، 30 سنة، مدرس لغة فرنسية بإحدى مدارس الجيزة الخاصة، يقول: «السنة اللى فاتت إدارة المدرسة زودتنا 140 جنيه، لكن السنة دى زودتنا 100 جنيه بس، ومرتبى الآن 800 جنيه بعد 4 سنوات من العمل فى نفس المدرسة، والزملاء الجدد يتقاضون 450 جنيه، لكن زملاء دفعتى بالمدارس الحكومية يتقاضون حالياً 1800 جنيه شهرياً، دا غير مكافأة الامتحانات، هما ممكن ياخدوا 3 آلاف جنيه لكن إحنا آخرنا ألف جنيه، المدرسين الحكوميين بيقبضوا طول السنة، حتى فى الإجازة، لكن إحنا بنقبض 9 شهور بس، ونكون عاطلين لمدة 3 شهور فى الإجازة الصيفية، ولو اتكلمنا وقلنا العقد فيه إن المرتب 12 شهر هيردوا ويقولوا عقدك مكتوب فيه المرتب 250 جنيه، عشان كدا بنسكت ومش بنتكلم».
يضيف «حسين»، الذى يعيش فى محافظة الجيزة ويعول طفلين: «الإدارة تحاول إغراء المدرسين بالدروس الخصوصية، لكن هناك مدرسين ألعاب ورسم ومكتبة لا يعطون دروساً ويتقاضون أقل من 800 جنيه شهرياً، رغم ارتفاع الأسعار إلى الضعف تقريباً، المدارس الخاصة طالبت بزيادة المصروفات أكثر من مرة بواقع 400 جنيه كحد أدنى فى السنة الواحدة، وهى أصلاً لم تعط أى زيادات للمدرسين بسبب ارتفاع سعر الدولار أو تعويم الجنيه، ولست أدرى ما علاقة تعويم الجنيه برفع المصروفات لأن مستلزمات التعليم لم ترتفع لأنها محلية وغير مستوردة».
وعن مادة اللغة الفرنسية التى يدرّسها «حسين» يقول: «الفرنساوى للأسف فى المدارس الخاصة مش مادة أساسية فى المرحلة الابتدائية أو الإعدادية، عشان كدا إدارة المدرسة مش شايفة إنه تخصص مهم، ولو مفيش مدرس فرنساوى الوزارة مش هتعمل حاجة برضو، لكن حل مشكلات المدارس الخاصة يكمن فى زيادة الإشراف عليها من قبَل وزارة التربية والتعليم مالياً وإدارياً وعدم تركها بوضعها الحالى على اعتبار أنها مشروع استثمارى يدر دخلاً هائلاً فقط، دا غير إن أصحاب المدارس يضحون بالمدرسين عشان يشتروا خاطر الطلاب، لو فصل مدرس هييجى 10 غيره، قدامه 100 أبليكيشن يختار منهم، لكن الطالب دا بيدفعله 6 آلاف على الأقل فى السنة ومصاريف المدارس الخاصة من 4 آلاف وحتى 100 ألف جنيه فى السنة الواحدة».
ويقول محمد خالد، 35 سنة، مدرس بإحدى المدارس الخاصة بمحافظة القاهرة: «لأن مشروع المدارس الخاصة استثمارى فى المقام الأول فإن ملاكها لا يهدفون إلا للربح فقط، لكن آخر شىء يفكرون فيه هو نجاح العملية التعليمية، والدليل على ذلك حصول كل الطلاب على دروس خصوصية، وبالنسبة للمدرسين فإنهم لا يحصلون على أدنى حقوقهم وهم الحلقة الأضعف فى منظومة التعليم الخاص، ولى الأمر هو الذى يدفع النقود، وصاحب المدرسة هو الذى يستقبل النقود، ونحن فى منطقة الصراع بينهما حيث يتم التضحية بنا فى أول مشكلة، وأصحاب المدارس لا يصرحون بذلك علانية، لكن الواقع الفعلى يؤكد هذه النظرية».
يضيف «خالد»: «مكافأة الامتحانات لا نتسلمها إلا فى شهر ديسمبر كل عام، بمعنى أننا نتسلم مكافأة الامتحانات فى منتصف الفصل الدراسى التالى، فيما يبلغ متوسط الرواتب لمدرسى المدارس الخاصة نحو 650 جنيهاً، وتبلغ أجور بعض المدرسين الذين يعملون فى المدارس الخاصة منذ 20 عاماً مثلاً 900 جنيه، لكن الكثير من المدرسين يعتمدون على الدروس الخصوصية لتحسين دخلهم، وفى ذلك عناء شديد ومهانة كبيرة للمدرس، لأنه يشعر بها يومياً أثناء تجواله على البيوت لتقديم الدرس».
تتغير نبرة صوته قبل أن تمتزج بالحزن قائلاً: «بنحس إن رزقنا فى إيد العيال اللى بندرس لهم، مع إنهم ممكن يعاملونا بطريقة مهينة، يعنى بيحسسوك إن هما اللى بيصرفوا عليك وبيقبضوك من الآخر، وما تتكلمش بقى عن قصة احترام المعلم والمربى الفاضل اللى اتعودنا عليها فى مدارسنا زمان، دا غير إننا بنكون نفسياً وبدنياً تعبانين، نفسنا نروح من المدرسة ننام ونريح فى البيت لكن بنفضل نتنطط طول اليوم فى المواصلات وعلى البيوت لحد الساعة 10 بالليل».
ويقول عبدالله عبدالرحمن السلماوى، 37 سنة، مدرس رياضيات من كرداسة: «الأزمة فى التعليم الخاص أنها عبارة عن سلعة، وأصحاب المدارس يتعاملون معها بنظرية الزبون دايماً على حق، ومعظم مشكلات التعليم فى المرحلة الابتدائية تكمن فى رفض التلاميذ وأولياء الأمور معاقبة أبنائهم، وفى الإعدادية يحاول الطلاب ممارسة نوع من فرض السيطرة على المدرس بسبب سن المراهقة، بيكون عاوز يعمل راجل ويهزر ويستظرف مع المدرس، اللى مش بيلاقى حد بيسانده من الإدارة وعشان كدا بيريح دماغه وما بيدخلش فى صدام مع أولياء الأمور أو الإدارة عشان ما يتفصلش من المدرسة ويتقطع عيشه».
يضيف «السلماوى»: «اشتغلت فى مدرسة خاصة لمدة 13 سنة ووصلت لدرجة وكيل المدرسة وكنت أتقاضى 1200 جنيه وعندما حدث خلاف مع صاحب المدرسة قدمت استقالتى وانصرفت وعملت فى مدرسة أخرى أتقاضى فيها الآن 900 جنيه فقط بعد 13 سنة تدريس، صاحب المدرسة بيصرف مبالغ قليلة من إجمالى ميزانية المدرسة والباقى بياخده مع إن اللوائح المنظمة لعمل المدارس تقول إنه يجب أن يحصل على 25% فقط كهامش ربح، وعندما يريد زيادة المصروفات الدراسية يقدم طلباً ويقول إن الرواتب زادت فيحصل على زيادة 10% تقدر مثلاً بـ500 جنيه لو المصروفات السنوية 5 آلاف جنيه، ولو حصل المدرس على زيادة فإنه سيأخذ 50 جنيهاً فقط، وبهذا الشكل لن ينصلح حال التعليم فى مصر إطلاقاً».
أحمد الأشقر، نقيب معلمى مدينة 6 أكتوبر الأسبق، يقول: «طالبت قبل ذلك بضم أجور معلمى المدارس الخاصة إلى كادر المدرسين الحكوميين لكن دون جدوى، وطلبت أيضاً إشراك وزارة التربية والتعليم فى عملية التعاقد مع مدرسى المدارس الخاصة الجدد لتكون طرفاً فى توقيع العقد بين المدرس والمدرسة لتكون طرفاً فاعلاً عند حدوث أى مشكلة أو أزمة بين المدرس أو المدرسة، فإذا أخطأت المدرسة تحاسبها الوزارة، وإذا أخطأ المدرس تعاقبه الوزارة أيضاً، لكن أغلبية المدارس الخاصة للأسف تفضل الابتعاد عن الوزارة وتستغل حاجة الشباب إلى العمل وتعطيهم رواتب زهيدة جداً مقابل إعطائهم الفرصة فى البحث عن تقديم الدروس الخصوصية، والشىء العجيب أن المدارس الخاصة التى تصل قيمة مصروفاتها إلى 100 ألف جنيه فى السنة الدراسية الواحدة، يعتمد تلاميذها على الدروس الخصوصية أيضاً لا فرق فى ذلك بين مدارس كبيرة وصغيرة، نظام التعليم فى مصر حالياً يعتمد على الدروس الخصوصية بشكل تام.