رفعت السعيد يتذكر: أيام النضال فى الجامعة وسنوات المعتقل
عبدالناصر محمولاً على الأعناق بعد ثورة 1952
من جديد يعاود الدكتور رفعت السعيد الكتابة عن ذكريات هى أشبه بمحطات تمثل مفارق طرق، محطات تتشابك فيها خطوط الطول والعرض، حتى إنها تحولت -مع الوقت- الى مناطق ملتهبة.. الاقتراب منها مغامرة محفوفة بمخاطر اتهامات لا أول لها ولا آخر. والحقيقة أن الدخول فى التاريخ الحديث يحتاج إلى خريطة تحدد الخطوط الفاصلة حتى لا يتعرض من يدخل فيه إلى متاهة، وهو ما يحاول أن يفعله «السعيد». والدكتور رفعت السعيد -سواء اتفقت معه أو اختلفت- يبقى علامة فارقة فى تاريخ اليسار فى الشرق الأوسط، بدأ مع التنظيمات والخلايا السرية حتى خرج حزب التجمع للعلن، وكوّن علاقات خارج مصر مع كل قادة اليسار فى العالم.
فى كتابه «مقاربات مع ثلاثة رؤساء.. ومشير» يروى ذكرياته مع «ناصر والسادات ومبارك وطنطاوى»
فى كتابه الجديد «مقاربات مع ثلاثة رؤساء ومشير» يرصد «السعيد» ما شاهده بنفسه وما عرفه من المصادر الأولى للمعلومة وينقل ما وثّقه عبر السنوات من اقتراب محفوف بالمخاطر من شخص يجلس على مقعد صانع القرار، بداية من جمال عبدالناصر الذى كان يلقبه بـ«الواد بتاع خالد» فى إشارة إلى الزعيم التاريخى لحزب التجمع خالد محيى الدين، وأنور السادات، الذى اقترب منه خلال أحد المؤتمرات وعرف منه سياسته المبكرة فى «لما أنا أرخى إنت تشد يا رفعت والعكس علشان نكمل مع بعض»، ثم «مبارك» من الصعود إلى عرش مصر حتى التنحى، وأخيراً المشير طنطاوى الذى اقترب منه خلال الفترة القلقة من ثورة 25 يناير حتى وصول الإخوان للحكم. داخل كل مرحلة مئات الحكايات وآلاف الوثائق، لكنه اختار من بينها ما يضعه فى 196 صفحة لتكون أشبه بشهادة عن «كرسى العرش» خلال 60 عاماً.
فى بدايات العام الدراسى الثانى فى جامعة إبراهيم باشا الكبير (عين شمس فى ما بعد)، وكنت تقريباً منهمكاً فى غمرة العمل السرى باستثناء زيارات متعجّلة إلى الجامعة أرتب فيها بعض الأمور التنظيمية، وفى صباح مبكر أتى رفيق يحمل رسالة شفوية تقول: «الإخوان يستجلبون إلى ساحة حقوق جامعة فؤاد (القاهرة حالياً) حشوداً طلابية ضخمة من مختلف المعاهد والمدارس، استعداداً لزيارة سيقوم بها جمال عبدالناصر إلى كلية الحقوق، وقد تعهد له الإخوان باستقبال حافل». دارت ماكينتنا محاولة أن تحشد ما هو ممكن من طلاب لنجدة رفاقنا هناك، واستطعنا تجميع عدد لا بأس به من الوفديين ومصر الفتاة ورفاقنا فى الحقوق والهندسة والطب، واستغرق ذلك وقتاً، وفى أوتوبيسات النقل العام تحركنا إلى ساحة «حقوق فؤاد»، لنجد حشوداً إخوانية كبيرة فعلاً وكثيراً من رفاقنا، وقد تعرضوا لعدوان غاشم زادته وحشية إحساس الإخوان بمساندة «عبدالناصر» لهم.. و«عبدالناصر» وخالد محيى الدين وآخرون من أعضاء مجلس قيادة الثورة، واقفون على منصة، وحسن دوح القائد الطلابى لـ«الإخوان» ممسك بميكروفون، ويصرخ وسط هتافات إخوانية صاخبة «يا رجل الثورة.. أعطنا حرية فى العمل وساعتها سنقول للشيوعية الملحدة (اخرجى من بلادنا).. ونقول لهم (يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ليحطمنكم سليمان وجنوده)».. كنا قد وقفنا معاً، وانضم إلينا بعض من طلاب جامعة فؤاد.. ولم ينتبه إلينا أحد، فقد غادر الضباط المنصة ودخلوا مكتب الدكتور مورو، رئيس الجامعة. وانصرف الإخوان بعد أن أدوا مهمتهم الثلاثية، وهى ضرب الشيوعيين وتملق «عبدالناصر» أمام زملائه الضباط، وإظهار قوتهم لقادة الثورة، وبعد فترة كنا وحدنا تقريباً والضباط أمضوا وقتاً مع د. مورو، يكفى كى ننظم أنفسنا فى هدوء وصمت، وفيما كان «عبدالناصر» والضباط يخرجون، كنا نسد الطريق أمام سياراتهم.. هاتفين «الشعب يريد الديمقراطية»، «الشعب يريد الدستور»، «أفرجوا عن المعتقلين»، فدُهش الضباط، وتوقف «عبدالناصر» ليتأملنا، ولعله تساءل فى نفسه من أين أتوا؟ وكيف أتوا بعد كل ما كان؟ استمرت هتافاتنا نحو عشر دقائق، وأشار «عبدالناصر» إلى حرسه بعدم التحرك، وهو واقف صامت والضباط الآخرون ما بين مبتسم شماتة فى «جمال» وفى الإخوان، وبين من يظهر الغضب، وبإشارة واحدة صمت الهتاف، وتفرق الجمع.. وانطلق الضباط بسياراتهم.
استقبلنا زيارة «عبدالناصر» لجامعة «إبراهيم باشا» بهتاف «الشعب يريد الديمقراطية والدستور وأفرجوا عن المعتقلين».. و«جمال» قال لـ«خالد»: «الولاد بتوعكم جدعان».. والإخوان المعتقلون هتفوا داخل السجن «الله أكبر ولا عدوان إلا على الظالمين» بسبب رؤيا لأحد قادتهم بأن «عجلاً على رأسه تاج من ذهب سقط فجأة» وفسروها بأنها سقوط لعبدالناصر.. وفى العام الثالث لى بكلية الحقوق تحولت الجامعة إلى ساحة سياسية تقودها «الجبهة الوطنية الديمقراطية لطلاب حقوق جامعة إبراهيم».. وتم اعتقال عدد كبير من الطلاب لضيق الضباط بالحركات الطلابي
وبعد سنوات طويلة، ما بين سجن واعتقال، وبعد الخروج الأخير من السجن.. عملت فى مؤسسة «أخبار اليوم» بواسطة من محمود المناسترلى، زوج أخت «ليلى» (التى أصبحت آنذاك خطيبتى)، ودعم من على الشلقانى. وبعد فترة من العمل معاً تآلفنا أنا وخالد محيى الدين (الذى كان رئيساً لمجلس إدارة المؤسسة)، وفى جلسة دردشة ونحن فى طريقنا معاً إلى الإسكندرية بالسيارة، حكيت له هذه الواقعة، فانفجر ضاحكاً وسأل: أنت كنت فيهم؟ فقلت: نعم. وحكى خالد محيى الدين أن «عبدالناصر» استدرجهم إلى الجامعة كى يريهم نفوذه على الإخوان، ولكى يُحرج موقف الأستاذ خالد الذى كان يحشد ضباط سلاح الفرسان والضباط اليساريين، مطالبين هم أيضاً بالديمقراطية. لكن ظهورنا وهتافاتنا، التى لم تكن مخططة أصلاً أفسدت زهو «عبدالناصر»، لكنه قال لـ«خالد»: «برضه الولاد بتوعكم جدعان». ثم همس فى أذنى: «إوعى تحكى الحكاية دى لحد.. فـ(عبدالناصر) لا ينسى مثل هذه الأشياء»..
ولأننى لا أسجل تاريخ مرحلة ما، وإنما أقدم وقائع تشابكت أحرفها مع قيادة يوليو، فإننى أستأذن فى أن أقفز إلى واقعة أخرى.. فعندما وصلت إلى «حقوق إبراهيم باشا» كان عدد رفاقنا قليلاً جداً، فقد كانت السنة الثالثة لإنشاء الكلية، وكنا آنذاك فى سبتمبر، والدراسة فى أيامها الأولى.. وبدأت تحالفات ثلاثية (نحن والوفد ومصر الفتاة). وعقدت مؤتمرات عدة فى أكثر من مدرج، وضمت حشوداً ضخمة ودُعيت إلى التحدث، ترددت، فدفعونى إلى المنصة، وخطبت مطالباً بالدستور والديمقراطية، وصفّق الحضور وانتشيت، وتحولت إلى خطيب شديد القسوة فى كل مؤتمر طلابى. وانتشرت مجلات الحائط، مجلاتنا ومجلات غيرنا.. وتحولت الجامعة إلى ساحة سياسية تقودها «الجبهة الوطنية الديمقراطية لطلاب حقوق جامعة إبراهيم». وضاق الضباط ذرعاً بالحركات الطلابية العارمة، وبدأت حملة اعتقالات واسعة حصدت مئات الطلاب فى معتقل مدرسة عسكرية، هى مدرسة الصناعات الميكانيكية بالعباسية، ومع بدء حملة الاعتقالات.. وتردّد طلاب كثيرين، واختفاء المؤتمرات الطلابية فى الكلية، وتباعد صدور مجلات الحائط، توحش الإخوان، وبدأوا فى الاعتداء الوحشى على زملائنا، واكتشفنا أنهم يُخبّئون فى إحدى دورات المياه «عصى وشوم وجنازير» وأغلقوا بابها من الداخل، بحيث لا يمكن فتحها إلا بعد القفز من الحمام المجاور، وفى فترة هدوء مسائية نقلنا هذه الأشياء إلى دورة مياه أخرى، وأغلقناها بالطريقة نفسها، ثم بدأنا فى التعرّض لهم ولم يجدوا أسلحتهم ووجدوها معنا.. وانطلقوا هاربين.. وفى اليوم التالى أتوا لينتقموا، فوجدوا أن عدداً من أعضاء الجبهة قد ضربوا طالباً معنا، اكتشفناه من فرط احترام الطلاب الإخوان له.
وكان هو هادئاً ومتباعداً.. والفتى الهادئ الوديع هو ابن المرشد حسن الهضيبى. وأتى إلىّ أحد قادة الإخوان ليطلب عدم المساس بابن المرشد، واتفقنا أنه لا ضرب من فريق لفريق، ونكتفى بالحوار الهادئ. لكن معتقل الصناعات الميكانيكية المجاور كان حافزاً ومحرضاً لنا كى نتحرك ضد الاعتقالات، وقررنا فى الجبهة أن نُصدر منشورات تطالب بالإفراج عن المعتقلين، وتعهّدت بأن نقوم بطباعتها وتوزيعها، ونجحنا فى ما أذكر مرتين. وكان فى المعتقل الطلابى سعد زغلول فؤاد، وقاد عمليات شغب محدودة، ثم كان أن ادعى الشروع فى الانتحار، وبلل شفتيه بصبغة يود، وادعى أنه شرب الزجاجة بأكملها، فأسرعوا به إلى المستشفى، حيث بقى عدة أيام.. وبعدها كرّرها غيره حتى أرسل المستشفى خطاباً إلى المعتقل يبلغهم أنه ليست هناك حالات انتحار، وانما طلاب يبللون شفاههم فقط بصبغة يود. وتقرّر وقف إرسال أحد إلى المستشفى.. لكن طالباً من غير المشاكسين اسمه عصام سرى فعلها، ولم يكن يعرف الحيلة، لكنه شاهد من ينتحرون يذهبون ويعودون أصحاء بعد أيام.. وشرب زجاجة صبغة يود كاملة، وصرخ صراخاً حقيقياً، ولم يصدقه أحد حتى توفى. وتحمّست وكتبت منشوراً باسم الجبهة وآخر باسم «رابطة الطلبة الشيوعيين - حدتو - جامعة إبراهيم»، فقد كنت مسئولاً لطلاب جامعة إبراهيم.. وعنوان المنشورين «يسقط نجيب قاتل عصام». ووزّع المنشوران فى مبنى هندسة وحقوق بعبده باشا، ومبنى طب بالعباسية.
كنت شاباً متحمساً، وكنا فى الرابطة بعيدين عن الصراعات الحزبية التى كانت محتدمة بين معسكرين فى «قيادة منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى - حدتو»، أحدهما يقوده السكرتير العام الرفيق بدر (سيد سليمان رفاعى)، والرفيق مسلم (النقابى سيد خليل ترك)، والآخر يقوده الرفاق خليل (كمال عبدالحليم)، حميدو (محمد شطا)، ناشد (زكى مراد)، والصراع ملتهب حول الموقف من حركة الجيش، خصوصاً بعد إعدام خميس والبقرى قائدى إضراب عمال كفر الدوار، وإصدار قرارات حل الأحزاب، وشن حملات اعتقال ضارية ضد الشيوعيين و«حدتو» بالذات.
أنا بحماس شاب يفتقد الحساسية إزاء كلمة «يسقط» كتبتها، وأصدرت المنشورين ووزّعا.. وزاد الانقسام حدة.. ولم يصدق أحد أننى فعلتها دون إيعاز من أحد، وأن مسئول قسم طلابى قد تجاسر، فرفع شعار الإسقاط دون إذن من أحد.. واعتقد الحكام أن قيادة «حدتو» قد أوعزت إلى طالب صغير السن بأن يفعلها كجس نبض للتعرّف على رد فعل الضباط الحاكمين، بينما صمّم المعسكر المناوئ للسكرتير العام على أنه حرّضنى على أن أفعل.. ولم يصدقنى أحد.
سعد زغلول فؤاد قاد عمليات شغب وتم اعتقاله.. وادعى الشروع فى الانتحار وبلل شفتيه بصبغة يود على أنه شرب الزجاجة بأكملها فأسرعوا به إلى المستشفى كررها ثانية فانكشف أمره.. وصراع «حدتو» احتدم حول الموقف من حركة الجيش فى يوليو وبعد إعدام «خميس والبقرى» قائدى إضراب عمال كفر الدوار وإصدار قرارات حل الأحزاب وشن حملات اعتقال ضد الشيوعيين
عُدت من المنصورة مع بدء العام الدراسى الثانى، لأجد أن حملة القبض فى أغسطس اكتسحت تقريباً كل رفاق القاهرة، وتوقف نشاط المنطقة تماماً.. وباختصار وجدت نفسى ومعى نحو خمسين عضواً من رابطة الطلبة فى قسم جامعة إبراهيم، وتقريباً كلهم من كليات «حقوق - هندسة - طب». وكنت المسئول أيضاً عن مجموعة من الطلبة السودانيين، يقيمون فى بيت السودان بالمنيل.
وما أشد قسوة الأمر على فتى صغير السن معزول تماماً عن القيادة والتوجيهات القيادية، وحملات القبض ضارية ومتواصلة.. ولا يعرف ماذا يفعل.
وأتى سامى برهام، رفيقنا فى كلية الحقوق، ومعه رواية سوفيتية مترجمة التقطها من سور الأزبكية عنوانها «الأوبكوم السرى فى غمرة العمل» (والأوبكوم تعنى لجنة المنطقة). وتحكى الرواية قصة مجموعة من الرفاق حاصرهم الغزو النازى المفاجئ لأوكرانيا، فانطلقوا إلى الغابة ليبدأوا نضالاً ضد النازى دون أن يكون لديهم أى سلاح، ولا أى علاقة بأى قيادة، ولا حتى بالوطن الأم، وألهمهم قائدهم شعاراً جميلاً «النضال ضد العدو لا يحتاج إلى أوامر أو توجيهات من أحد». قضيت الليل سهراناً أقرأ بانتباه كيف تحولت هذه المجموعة إلى جموع تحارب النازى وتُلهم وطناً بأكمله.. وفى الصباح قرّرت أن أفعل شيئاً دون انتظار أوامر من أحد، توقفت تماماً عن الذهاب إلى الكلية، وسلمت قيادة العمل الحزبى فيها إلى مجموعة ثلاثية «سامى برهام - نجيب سرور - فؤاد قنديل»، وبدأت العمل مع الآخرين.
طالب حقوق اقترح أن نغلى زيت برافين فى حمام مائى ونذيب فيه بودرة «بويه» حمراء لنكتب بها الشعارات على الجدران.. وإذا حاول أحد غسلها بالماء تزداد تألقاً.. ونجل «الهضيبى» كان هادئاً.. وأحد قادة الإخوان طلب منا عدم المساس به واتفقنا على أنه لا ضرب من فريق لفريق ونكتفى بالحوار الهادئ.. و«رابطة الطلبة الشيوعيين (حدتو) جامعة إبراهيم» كانت تضم شباباً متحمساً بعيداً عن الصراعات الحزبية التى كانت محتدمة بين معسكرى «رفاعى وترك»
كنا فيما أذكر عشرين طالباً، تركنا الدراسة وتفرّغنا لبناء «الأوبكوم السري» مع الجميع، بعد أن قسمتهم إلى أربع مجموعات، وكان السؤال كيف نبدأ؟ وماذا سنفعل؟ وتراصت مجموعة من المقترحات، كلها تبدّت وكأنها ساذجة، أو حتى مجنونة، وقرّرت أن نبدأ بها جميعاً، كانت جدران القاهرة مغطاة ببوسترات عليها صور نجيب، وأخرى عليها نجيب وعبدالناصر، وثالثة مكتوب عليها «الاتحاد والنظام والعمل»، اقتراح بمسدسات لرش المياه تمتلئ بالحبر الأسود وتشوه الجميع.. واقتراح بسيط آخر بشرائط من الورق اللاصق لمجموعة تقضى ساعات لتكتب عليها «يسقط الديكتاتورية العسكرية - حدتو»، وفى الفجر تنطلق المجموعات، كل خمسة أفراد فى عربة مترو أو أوتوبيس، وفى غفلة من السائق والكمسرى النائم فى أغلب الأحيان تُلصق الشرائط على زجاج العربة وتنزل المجموعة إلى عربة أخرى، وذات يوم جاء نهاد أنور (حقوق) باقتراح من قريب له كان عضواً معنا (كلية العلوم) هو: أن نغلى زيت برافين فى حمام مائى، ونُذيب فيه بودرة بوية حمراء ومع تقليبها تتحول إلى ما يُشبه العجينة وتفرد على قطعة مشمع حتى تبرد تم تُقطع إلى أصابع، للتحول بعدها إلى ما يشبه الأقلام، لكنها ليست كأى أقلام، فعندما تُكتب على أى جدار تتألق لامعة، وإذا حاول أحد غسلها بالماء تزداد تألقاً.. وانطلقت المجموعات، ثلاثة يراقبون الطريق من كل الاتجاهات واثنان يكتبان الشعار الأثير لدينا آنذاك: «تسقط الديكتاتورية - حدتو». وذات يوم ذهبنا إلى حى الدقى، وأغرتنا العمارة الضخمة بجوار فرن الجهاد، فملأنا جدرانها.. ولم نكن نعرف أن القادة الهاربين «شطا - زكى مراد - محمد خليل قاسم» يسكنون هناك فى البدروم.. استيقظوا على ضجيج البوابين، وهم يُدهشون من الكتابة التى تزداد تألقاً كلما غسلوها (بعد زمن حكى لى زكى مراد أنه «جن جنوننا فرحاً، فقد علمنا أن التنظيم ينشط لكننا غرقنا فى قلق شديد وكان يجب أن نرحل»). ولأن الجنون يستدرج الجنون فقد اقترح طالب (زراعة) أن تعد رشاشات كبيرة مليئة بماء مذاب فيه سماد من فضلات الحمام. وببساطة تُرش بكتابة كلمة واحدة «حدتو» على مسطح النجيل الذى كان يغطى مدخل ميدان العباسية باتجاه قصر الزعفران.. وكان زملاؤنا يلبسون جلابيب وهم يرشون هذه المساحة بكلمة «حرية» أو كلمة «حدتو».. وبعدها بأيام أمر الأمن بقص هذه الكلمة التى تبدّت أكثر نمواً من المسطّح، لكنها كلما قُصت ازدادت نمواً.. وتقرّر إلغاء هذا المسطح أصلاً.. وتواصل الجنون حتى لفت الأنظار. وذات يوم وفيما نتخيل أننا «أوبكوم سرى» فعلى، وأن العدو ازداد قلقاً. اتصل طالب بكلية الطب بمسئوله ليبلغه أن قريبه، وهو ضابط يعمل فى مقر قيادة الجيش، حيث يجتمع مجلس الثورة، وأنه مسئول عن إعداد الاجتماعات وتأمينها، وأنه يسمع الكثير، فهو تقريباً حاضر واقفاً فى كل الاجتماعات، وأنه فقد الاتصال، ولديه أخبار مهمة يريد إيصالها إلى القيادة. ولأننى أنا المسكين الحائر والمسمى «القيادة» قابلته أتى به رفيق وتركه ومضى.. الضابط وكان يرتدى زياً مدنياً أنيقاً نظر إلىّ فى دهشة، لكنه مضى معى وبدأ يحكى، وكنت أختار الشوارع الضيقة والمظلمة، وينتهز هو أى بقعة ضوء ليتلمس شكلى أنا الذى أصغره بسنوات عديدة.. وكان يحكى دون أن أقاطعه، فقال أخباراً مهمة، حكى كيف دخل «عبدالناصر» فى أوائل سبتمبر (أى قبل عدة أسابيع)، وقال فى زهو باركوا لـ«زكريا» (زكريا محيى الدين) فقد وجّه ضربة مميتة لتنظيم حدتو. وتعالت التهانى.. لكن «بغدادى» سأل أُمال مين بيكتب شعارات فى الشوارع، فرد «عبدالناصر» دول شوية عيال وحنجيبهم فوراً. وكانت أهم الأخبار متعلقة بالمفاوضات مع الإنجليز، وأنها توقفت عند الزى الذى سترتديه القوات الإنجليزية التى ستبقى فى قاعدة القنال. الإنجليز يصمّمون على أن يرتدوا زياً عسكرياً، والمصريون يقولون بهذا الزى سيبدون كقوات احتلال.. وفيما نمر فى أحد الشوارع، كانت كتاباتنا على الجدران تتلألأ، فسأل: مين بيكتب ده؟ فقلت: إحنا، ومين عمل حكاية النجيل عند قصر الزعفران؟ فقلت: إحنا.. ومين رش البوسترات بالحبر الأسود؟ إحنا.. إحنا.. إحنا، ويزداد الضابط انبهاراً، وفجأة سألته: ما رأيك فى أن نوجّه صفعة شديدة لـ«زكريا»؟ وسأل: إزاى؟
فقلت: أرسل لك مطبوعات سرية لـ«حدتو» وتضعها بالملفات التى توجد أمام الجالسين؟ سكت الضابط ولم يجب. وفيما اقتربت لحظة الافتراق، قال ابعت المطبوعات وانا حاتصرف. وبسرعة طبعنا عدداً من نشرة «الكفاح»، وكانت تُكتب على الاستنسل وتُطبع على إطار من الخشب مشدود عليه قطعة من الحرير.. وكان العنوان «دبورة على الكتف تعرقل المفاوضات مع العدو». وباختصار وضعت النشرات فى الملفات، واستدرج رفيقنا أحد الضباط التابعين لـ«زكريا» فى جهاز المخابرات، لكى يقف بالغرفة ليحرس الملفات المتخمة بمنشورات ونشرات.. ووقف هو بعيداً. وما إن بدأ الاجتماع حتى صاح الجميع: إيه ده؟ وصاح «عبدالناصر» ملتفتا إلى ضابط المخابرات: هى حصّلت؟ وقال رفيقنا فى لقائه التالى معى إن أكثر الشامتين كان «بغدادى». أما زميلنا الماكر فقد تقدّم باقتراح بتغيير مكان الاجتماعات، لتكون داخل مبنى المخابرات.. وتمت الموافقة، وبالتالى أعيد هو إلى سلاح الفرسان.. ولم يُصب بسوء. وبعدها دارت ماكينة العنف الناصرى واتسعت حملات القبض، لتشمل كل من يُشتبه به، وقُبض فى كلية الحقوق على أغلب زملائنا، وعلى قيادة الجبهة من وفديين ومصر الفتاة، وتولت المخابرات العامة، وبشكل مباشر، مسئولية إسكات صوت «حدتو»، وآن لنا، بسبب مشاغبات غير متقنة، أن ندفع ثمناً باهظاً، ليس فقط بسبب قبضة المخابرات الحاسمة، وإنما أيضاً بسبب المنافسة بينها وبين البوليس السياسى، وكذلك بسبب ما تسبّبنا فيه من غيظ لـ«عبدالناصر».. وتعلمت عبر سنوات تالية أن أتلقن أن من فنون العمل السياسى عموماً والسرى على وجه الخصوص، ألا تفعل ما قد يستثير الخصم، كى لا يفعل ما لا تحتمل.
شكلت مع 20 طالباً متفرغين «الإبكوم السرى».. وقسمنا الفريق إلى 4 مجموعات ونفذنا اقتراحات ساذجة ومجنونة وبدأنا بتغطية جدران القاهرة بشعار «تسقط الديكتاتورية العسكرية - حدتو»
وفيما يتصاعد الارتباك المصحوب بنشاط محموم لا أجد له نهاية ولا يعرف لا كيف يتصاعد، ولا كيف يتحسب من أتونه. اتصل أحد أعضاء خلايا التنظيم فى كلية الحقوق، اسمه محمد حلاوة، وكان على علاقة قرابة بعيدة مع يوسف صديق، وقال العبارة السابقة ذاتها: «أحد كبار الضباط يريد أن يقابل الرفيق المسئول». قابلت «حلاوة» وأسقط فى يدى، فالذى يطلب المقابلة يوسف صديق، وكنا نسمع اسمه فنشعر بالمهابة، ولا يصلح أن أتجول معه فى شوارع الوايلى المظلمة، ولا أن أستضيفه حيث أختبئ، وأخيراً رتّبت أن ألتقى به فى فيلا أرستقراطية عتيقة لعائلة أحد رفاقنا الطلبة.. عباس محمد رفعت، والشارع اسمه شارع محمد بك رفعت، وبهذا تتضح طبيعة الأسرة. «عباس» وافق، ببساطة قلت: سألتقى ضيفاً مهماً فى بيتك، وأجاب: اتفضل. وفى غرفة الصالون ذات الأثاث التقليدى العتيق، تبدّى يوسف صديق شخصاً أسطورياً، وشعيرات بيضاء تكسو فوديه تزيده مهابة، لعله شعر بأننى أرتجف وأنا أصافحه، فمنحنى نظرة حانية وابتسامة صادقة فتشجّعت. وبدأت أنا بالكلام، فشكوت من وضعى. أنا وجدت نفسى فى هذا الوضع ولا أستطيع أن أجد أحداً فى القيادة يمنحنى التعليمات. وقلت: أنا أتصرف ولا أعرف إن كانت تصرفاتى صحيحة أم خاطئة. قال وهو يتمشى: مين رتب وضع منشورات «حدتو» فى ملفات ضباط القيادة؟ فقلت: أنا. ومين رتب رش البوسترات بالحبر الأسود؟ أنا، ومين رش النجيل فى ميدان العباسية؟ أنا، توقف وارتجفت، متوقعاً لوماً وتأنيباً، فإذا به يمد يديه، فوقفت لأجد نفسى فى أحضانه، وهو يقول: برافو. وأحسست بالرغبة فى أن أبكى فى أحضانه، لكنه بدأ يعاملنى كمسئول حقيقى.. وبدأ يحكى عن وضعه بعد إبعاده من مجلس القيادة، وقال: إنه وبعد فترة من التباعد بينه وبين «عبدالناصر» «استدعانى جمال منذ يومين» وبدأ التعاتب، «صديق» يشكو من عزلته و«عبدالناصر» يشكو من «علية» زوجة يوسف صديق، (وكانت عضواً نشطاً فى «حدتو»)، ثم بدأ «عبدالناصر» بالشكوى من خلافات مع بعض أعضاء القيادة، ومن الضغوط الخارجية، وطموحاته هو فى أن يرسم لنفسه طريقاً مستقلاً فى السياسة الخارجية يمنحه قدرة على حماية وضعه الداخلى، وذكر له بعضاً من معلومات عن سياسة «نهرو» الخارجية التى تحاول التوازن بين أمريكا والاتحاد السوفيتى، وكذلك محاولات «تيتو» فى يوغوسلافيا، لتحقيق نوع ما من الاستقلال عن الاتحاد السوفيتى.. وأحلامه فى تكوين محور ثلاثى (سمى فى ما بعد الحياد الإيجابى)، وسأله: ما رأيك فى مشروع كهذا؟ وهل تقبل أن تساعدنى لتحقيقه؟ وهل تتصور أن «الرفاق» سيؤيدون موقفاً كهذا؟ ويمضى القائمقام: ما إن أبديت نوعاً من الرغبة فى التفكير فى الأمر حتى بادرنى قائلاً: «تسافر سفيراً فى الهند، وتبدأ فى السعى معى لتحقيق هذه الخطوة»، ولست أعرف أنا مدى جدية هذا العرض، ولا جدية «تعميمه على الرفاق»، كما وصفهم «عبدالناصر». أم كان الأمر مجرد إغراء لفارس يصعب إغراؤه بمنصب سفير كى يسافر بعيداً عن ضباطه الذين يواصلون الاتصال به؟.. ازداد ارتباكى، وقلت بصراحة هذا الأمر أكبر كثيراً من أن أفتى فيه، إنه أصعب من الكتابة على الحوائط أو رش الصور بالحبر الأسود. أما هذا فأمر صعب جداً. ثم أضفت هناك اقتراح ليس حلاً، لكنه مهرب مؤقت. إيه هو؟ سألنى، فقلت: يريد أن يعرف رأى الرفاق والرفاق القياديين عنده فى السجن، فليبحث معهم الأمر، مرة أخرى قال يوسف صديق: «برافو»، ثم كانت المفاجأة فيما كنا نوشك على إنهاء المقابلة، فتح الباب ودخل شاب فارع الطول، مخاطباً «عباس»: «إيه يا عباس مش عايزين شاى أو قهوة؟» (وعرفت فى ما بعد أنه زوج شقيقة عباس، وأنها تشككت فى أمر الضيف الأكبر سناً بكثير من أن يكون صديقاً لطالب، وطلبت منه أن يدخل ليستطلع الأمر)، وفيما يلتفت «عباس» إلى الضيف ليسأله، التفت زوج شقيقته ليتعرّف على القائمقام.. ويوجه إليه التحية العسكرية باحترام شديد: «تمام يا افندم، تؤمر تشرب إيه»، وابتسم القائمقام، قائلاً: «شكراً يا حضرة الضابط، أنا ماشى»، وفيما نغادر قال القائمقام: الضابط عرفنى ولازم حيبلغ. فقلت: حيحصل إيه، فقال: أنا مايقدروش يعملوا معايا حاجة، لكن أنت حيقطعوا رقبتك، فاستعد. وبالفعل انقلبت الدنيا بحثاً عنى، وقُبض علىّ فى 25 ديسمبر، وإلى السجن، ثم تمت المحاكمة، ثم خمس سنوات أشغال شاقة. أما يوسف صديق فقد ضيّقوا عليه الخناق، وقُبض على زوجته «علية توفيق» لفترة من الوقت.
أغرقنا العمارة الضخمة بجوار فرن «الجهاد» بالدقى بشعاراتنا.. ولم نكن نعرف أن قادة فى التنظيم هاربين بها فى البدروم واستيقظوا على ضجيج البوابين
وفى السجن، وتحديداً فى سجن جناح، حيث الحياة فى خيام محاطة بسلك شائك.. وقعت مقاربتان أعتقد أنهما مهمتان فى فهمى لعبدالناصر، «كان المعسكر ذو الأسلاك الشائكة منقسماً إلى قسمين، الإخوان وكانوا يفوقوننا عدداً وبيننا وبينهم مجرد سلك شائك يتبدى كفاصل وهمى لكن اجتيازه صعب جداً ويحتاج إلى ترتيب مسبق، وكان بعض المعتقلين من الإخوان يتململون من اعتقال بلا أمد ولا يعرفون نهاية لهذا الوضع.. وتصور بعضهم أن إعلاناً منهم بتأييد نظام عبدالناصر قد يؤدى إلى إخلاء سبيلهم.. وانقسم الإخوان إلى «مؤيدين» و«معارضين» وبعد فترة تصادم الفريقان وتعالت صرخات الصدام لتصل إلينا.. وانسكبت مرارات حقيقية بين الفريقين.. وفجأة وعند الفجر ضج معسكر الإخوان بهتافات مدوية «الله أكبر ولا عدوان إلا على الظالمين.. الله أكبر ولله الحمد» وفيما تثور الدهشة تدحرج عبر خط السلك الشائك عم الشيخ سعيد (والشيخ سعيد واحد من أوائل الإخوان الذى زاملوا حسن البنا فى الأيام الأولى لوصوله إلى القاهرة وهو أول من حمل بوقاً من صفيح وارتدى جلباباً أخضر وتجول وهو يهتف فى شوارع وحارات قسم الخليفة داعياً إلى مساندة دعوة الإخوان.. دعوة الحق وكان يمتلك «كاريزما» طاغية وسط الإخوان، وكان ينادى للكبير من الإخوان يا ولد. ولم يكن يوافق على سياسة الإخوان ولا على مواقفهم ولا على علاقاتهم ببعضهم البعض..) وكان على علاقة حميمة بنا وبالتحديد مع محمود توفيق، وكثيراً ما يزورنا مفسراً ذلك بأنه يريد أن يتحاور مع بنى آدمين مش ببغاوات، المهم فسر لنا عم الشيخ سعيد الأمر.. فالشيخ شريت أحد قادة الجماعة ومفسر أحلامها أغفى قبيل الفجر وكان أن حلم بأن عجلاً على رأسه تاج من ذهب ويجلس على كرسى من ذهب ثم يسقط فجأة ويسقط التاج.
والتفسير واضح فسقوط التاج يعنى سقوط النظام وعبدالناصر معاً، وقال عم الشيخ سعيد إنها تمثيلية تحاول إقناع من انحازوا إلى معسكر تأييد عبدالناصر بأن الإفراج عنهم قريب وأن عبدالناصر سيسقط ولا مبرر للانشقاق عن الجماعة.
وفى صباح اليوم التالى وبعد الفجر بقليل حامت طائرة هليكوبتر وبدأت حالة من الارتباك فى الإدارة، ثم الهليكوبتر تهبط وبروجى يدوى «سلام اللواء» تطلعت أبصارنا إلى غرفة المأمور ورأينا اللواء إسماعيل همت الذى نعرفه.. وأعرفه أنا شخصياً وعرفت مدى وحشيته، ولكن الإخوان يعرفونه أكثر فقد عذبهم فى السجن الحربى، وقف اللواء (نائب مدير عام مصلحة السجون) وحوله كوكبة من المأمور والضباط، أما الإخوان الذين ذاقوا شراسة «همت باشا» وتعذبوا على يديه فقد انزاحوا سريعاً جداً إلى خيامهم فى خوف، بينما اللواء والمحيطون به عبروا السلك الفاصل واتجهوا إلى خيام الإخوان، وبعدها بعشر دقائق دوى البروجى مرة أخرى وحلقت الهليكوبتر وانتهت الزيارة، وازددنا فضولاً وتدحرج الشيخ سعيد ليطفئ ظمأناً لمعرفة ما كان.. اللواء سأل «فين خيمة الشيخ شريت؟ وأشاروا إليها فرفع باب الخيمة ليجدوا شريت مكوماً فى ركن الخيمة وهو يرتجف، همت قال فى مرح «شيخ شريت إزيك؟ وقبل أن ينطق باغته همت «الريس بيسلم عليك وبيقول لك ابقى اتغطى كويس وانت نايم علشان تحلم صح». وعاش الإخوان لزمن ليس بالقصير يغلفهم الخوف من بعضهم البعض، فكيف تسرب خبر الحلم بهذه السرعة؟ وكيف عرف عبدالناصر بأنه حلم الشيخ شريت، وكان الهدف من زيارة همت واضحاً وهو إبقاء حالة الانقسام كما هى وحلم الإفراج عبر التأييد كما هو. (ولا بد لنا أن نتذكر أن مفسر أحلام الجماعة بعدها بأكثر من نصف قرن فعلها فى ميدان رابعة عندما طال الأمد وكاد الصبر تنفد ذخيرته من بعض المعتصمين فأعلن ما قال إنها رؤيته، حيث رأى سيدنا محمد نائماً على حجره، ثم أتى مرسى ونام أيضاً ثم طلب الرسول «قوم يا محمد كى تؤم الصلاة.. وهلل الإخوان وكبروا.. وصدقوا»).
ويقتادنا هذا الحديث عن همت باشا إلى واقعة سابقة.. فى سجن آخر هو سجن القناطر، وكان طابور المحبوسين تحت التحقيق يسير بنا ونحن حفاة (لأن الأحذية ممنوعة بأمر الأمن) وملابسنا من خيش أبيض والملابس الداخلية ممنوعة بأمر الأمن.. والحصى لم يعد يؤلم الحفاة فقد تعودت أقدامهم على ذلك.. وفجأة «سلام اللواء» وصراخ مدوٍ «انتباه» وتوقف الطابور وأمامنا وقف نفس الكائن.. اللواء إسماعيل همت، واللواء همت لا يأتى أبداً ومعه خير وإنما شر مطلق، امتد أصبع همت مشيراً نحوى: أنت. وحاولت عيناى أن تتجاهلا اتجاه الأصبع لكن الأصبع استمر محدداً سهمه نحوى، خطوة للأمام وخطوت «اسمك، مهنتك»، ثم.. ليه انتم ضد الرئيس عبدالناصر؟ قلت ذات الإجابة الملتبسة، التى أسميتها أنا بعد ذلك بسنوات عديدة الإجابة الرمادية.. فلا نحن ضده لأن عبدالناصر يعادى الاستعمار والصهيونية ويبنى لمصر وطناً مستقلاً وللفلاح الإصلاح الزراعى والقطاع العام والسد العالى.. ومجانية تعليم.. وفى نفس الوقت نحن لا نقول نعم مطلقة، فلا حريات ولا ديمقراطية والتعذيب الوحشى فى السجون.. وطبعاً لم أقل هذا بالتفصيل وإنما اكتفيت بأسباب التأييد ثم نختلف حول مسألة الديمقراطية والحريات.. ولكن همت واصل الضغط كى يستدرجنى فقد قرر تقديم وجبة من درس شديد القسوة للجميع.
أنا قلت عبدالناصر ضد الاستعمار والصهيونية.. فأسرع قائلاً خلاص التفت لإخوانك واهتف يعيش عبدالناصر فقلت: الهتاف هنا فى السجن يصبح ذا مذاق ذليل ولا مبرر له، فقال طيب الكلب خروتشوف شتم عبدالناصر وقال عليه إنه شاب طائش، اهتف لزملائك يسقط خروتشوف، فقلت وقد استجمعت كل ما أمتلك من أنفاس «ما ينفعش»، وأطال إسماعيل همت حبل الاستجواب السخيف، مش بتقول إنكم مع عبدالناصر.. فقلت معاه فى حاجات «بس» إحنا، وانفجر همت ملتفتاً للمأمور (عباس الرمالى) الولد بيقول لى «بس» يا عباس، انت معرفتش تربيهم يا عباس.. وكانت إشارة البدء وكان الكاب ذو الشريط الأحمر يهتز من فرط الانفعال وتجاوب عباس سريعاً وكانت ركلة منه كافية لإلقائى أرضاً، وهى أيضاً مجرد إشارة صامتة، فانهالت العصى والشوم واللكمات والشتائم والأحذية تطحن الجسم كله بحجمها الميرى الثقيل.. وبدأت أستشعر حالة خاصة جداً لا يعرفها إلا من يتعرض لمثل هذا التعذيب الوحشى، فبينما الركلات تتصارع من يسبق أولاً والأحزمة بأطرافها النحاسية تدق عظامى لم يعد الإنسان يشعر بشىء.. كان فقط وكأنه يرى جسداً آخر يضرب وهو فقط يتعاطف معه، لكن الآلام تأتى بعد ذلك عندما يحملونك ويلقون بما تبقى منك إلى أسفلت زنزانة انفرادية.. ويتبقى صوت همت صارخاً: يبقى فى الانفرادى حتى أصدر أنا أمراً بالعفو عنه، ثم كان الانفرادى الذى هو أصعب ما فى السجن لعديد من الأشهر، فقد نسى همت الأمر كله بعد خروجه، والانفرادى هو الوضع الأكثر صعوبة عند أى سجين، فهو يستشعر أن الوقت متوقف ولا يريد أن يمضى، بينما آلام حفلة الحوار معى لم تزل باقية.. لتلقن السجين مقاربة ناصرية من نوع خاص لكنها تلخص أحد جوانب الناصرية فى التعامل مع من يؤيدون.
ونأتى إلى المقاربة الثالثة.. شاب صغير ذكرنى بأيام طفولتى أتى إلى سجن جناح محكوماً عليه بعامين، عامان فقط أمر لا يحدث كثيراً، لكن التهمة تبرر ذلك فقد انطلق إلى الشارع فى ذات يوم تأميم قناة السويس ليوزع منشوراً طُبع على عجل ووُزع على عجل يؤيد تأميم القناة ويدعو الجماهير للالتفاف حول الرئيس ودعمه لحماية مصر من أى مؤامرات داخلية أو خارجية، وطبعاً عبارات المنشور تفيض بالتأييد وهذا يسعد النظام لكن ما يغضب رجال النظام هو أن توزيع أى منشور هو بذاته جريمة، وتصبح الجريمة مضاعفة إذا كان التوقيع (الحزب الشيوعى المصرى الموحد - وكانت مجموعة من المنظمات أهمها حدتو قد توحدت بينما كنا فى السجن تحت هذا الاسم) وكان الفتى يحاول أن يبدو قدر الإمكان متماسكاً.. لكننى وأنا الذى مررت بهذه التجربة من قبل أعرف ما يمكن أن يكمن فى أعماق هذا الفتى، خاصة فى هذا الموج المتلاطم.. ولا أحد يلتفت إليه فلا أحد يعرفه وهو لا يعرف أياً من الأسماء المعروفة خارج السجن.. ومنحته قدراً كبيراً من اهتمامى حتى يتأقلم على الحياة فى هذا المعترك، خاصة أن الحزب كان قد تعرض لخلافات بين مكوناته.. وهو لا يعرف مع من كان مسئوله (الذى لا يعرف اسمه الحقيقى.. المهم أصبحنا أصدقاء وكنا نتمشى معاً بعيداً عن الصخب.. وبدأ يحكى، وأنا أنقل روايته منسوبة إليه ووفق ما قال) وتبدأ حكاية الفتى على حنيطر.. بوالده أحمد أفندى حنيطر، وكان مدير مكتب بريد، وكان صديقاً حميماً وقديماً لعم عبدالناصر حسين والد جمال عبدالناصر، وكان ولى أمر جمال فى القاهرة. وجمال يتحاشى السفر لبيت أبيه بالإسكندرية، حيث توجد زوجة الأب. وكانت الست أم على (الذى لم يكن قد ولد بعد) تعطف على جمال.. تؤوى وتطعم وتغسل ملابسه وتكوى ما يستحق بحنان يحاول تعويض فتى فقد أمه. ثم تخرج جمال وأصبح ضابطاً وتباعدت السبل.. وفجأة وبعد سنوات التباعد ظهرت صورة جمال فى الصحف ثم أصبح رئيساً، حاولت الست أم على أن تقنع أحمد أفندى حنيطر أن يتصل بجمال لعله يحصل على ترقية ما، وكانت تقول «ده احنا ياما خدمناه ولن ينسى ذلك».. لكن أحمد أفندى يصيح بكبرياء «ده ولد عاق ولم يتصل بنا ولا مرة واحدة منذ تخرجه فكيف نطلب منه شيئاً وقد أصبح رئيساً»، ومرت الأيام حتى قبضوا على الابن الغالى الذى أتى بعد حفنة بنات، وهو مجرد ابن سبعة عشر عاماً، قررت الأم أن تضرب بعناد أحمد أفندى وكبريائه متحججة «بقلب الأم» وأن جمال طيب ومش حيكسفها، وبمعجزة حصلت على رقم من أرقام بيت الرئيس، وتصورت فى خيالها أنه سيرد عليها بنفسه «وازيك يا جمال عامل إيه يا حبيبى» لكن صوتاً خشناً رد عليها بعدوانية، قالت ببساطة «قول للريس مدام عمك أحمد حنيطر عايزاك ضرورى.. وهو عارفنى كويس قوى»، وتنقلت المكالمة من صوت إلى صوت وفى كل مرة تكرر هذه الجملة بلا ملل، أخيراً جاءها الرد الأكثر خشونة «إذا فيه أى حاجة ابعتى طلب مكتوب على مكتب الرئيس»، أم على انهارت جنب التليفون وهى تبكى «اخص عليك يا جمال».. وعلم أحمد أفندى وثار هائجاً «ده معبرناش لما بقى ملازم.. عايزاه يعبرنا لما بقى رئيس» ولأول مرة أقسم بالطلاق بالتلاتة ألا يتصل أحد من طرفه.. بجمال.
وتهادت سنوات السجن فى جناح.. وأتى الإفراج.. وبعدها فترة هروب ثم قبض ثم محاكمة أمام مجلس عسكرى عال مليئة بحكايات عن رئيس المجلس العسكرى، الفريق هلال عبدالله هلال، قائد سلاح المدفعية، الذى لم يكن له أى علاقة بأى قانون، وبتداعيات بعضها مثير للدهشة وأخرى مثيرة للضحك.. وصدام خفيف مع سيادة الفريق.. الذى لسبب ما صمم أن يسمع صوتى مترافعاً عن نفسى (ربما لأننى كنت لم أزل الأصغر سناً) بينما الرفيق شهدى مسئولنا قد نبه علىَّ «لا تنطق فإنه لا يوجد على الإطلاق أى شىء ضدك وقد يستدرجك القاضى كى تخطئ فيجد ما يبرر الحكم عليك»، المهم خلال المرافعات نودى على اسمى ووقفت وطلب الفريق منى أن أترافع عن نفسى (وكان كل القادة فى القضية يترافعون محددين مواقف سياسية واضحة تربك المحكمة، فالتهمة أننا نطالب بتأميم ملكية الغير، والحكومة أصبحت تؤمم.. والتهمة الأخرى أننا نسعى لإقامة نظام على نمط ما فعله لينين وستالين، والنظام اتفق على بناء السد العالى مع هذا النظام وسلح جيشه بسلاحه.. والعلاقة معه فى عصرها الذهبى) وصمم القاضى أن أتكلم وأنا أكرر أن عندى محاميين سيتوليان الدفاع عنى.. وهو يقول أنا عايز أسمعك، وأنا لكى أتهرب منه أقول معرفش وأخيراً وبملل شديد أمسك قلماً وكتب أمام اسمى -وبصوت عال سمعه الجميع- يعاقب بالسجن خمس سنوات أشغال، والمثير للدهشة أن الفريق نادى المحامى الموكل عنى كى يترافع بعد أن أعلن الحكم.. وارتبك المحامى.. فالقاضى أصدر الحكم فما قيمة المرافعة.. ولم يكن المحامى مقاتلاً وكان قد شاهد قبلها بعشر دقائق رأس الذئب الطائر.. فقال مرتجفاً.. يا سيادة الرئيس الأسر ترجوكم الأمر بتسليم الطعام فور وصوله حتى لا يركن لفترة طويلة ويصبح من الصعب أكله. أما عن موضوع الدعوى فأنا أفوض عدالة المحكمة فى الأمر.
ومن جديد أبدأ حياة جديدة.
وعبر إلحاح من محمود المناسترلى (عضو الضباط الأحرار - وزوج أخت ليلى) قال خالد محيى الدين ابعته لعلى الشلقانى وأنا سأعطيه الأوكى.. وأتت الأوكى وتوجهت لأقابل على الشلقانى.. وهكذا دخلت إلى قلعة الصحافة.. من الاستعلامات إلى الأسانسير إلى الدور التاسع، الجميع مندهشون، فالدور التاسع فى هذا الزمان هو قدس أقداس مؤسسة أخبار اليوم، لا يصعد إليه إلا كبار الزوار أو رؤساء التحرير، وكان على الشلقانى كما اعتدت معه بعد ذلك مشغولاً أو متشاغلاً، كان مبتسماً ومترفعاً ومنهمكاً فى آن وأخذ يخطب بصوت عال فى التليفون لم يشر إلىَّ بالجلوس، وأمسك قطعة ورق صغيرة وشخبط عليها سطراً واحداً، ثم ناولنى إياها وبهذه الورقة انفتح أمامى عالم الصحافة «يعمل بمكافأة شهرية ثلاثين جنيهاً من اليوم.. ثم شخبطة أخرى تبدو كتوقيع والتاريخ 26-12-1964.. ونطق أخيراً أشوفك بكرة، قالها بعد أن أشار إلى غرفة مجاورة.
وهناك التقيت برفاق السجن الذين سبقونى بفضل خالد محيى الدين إلى أخبار اليوم.. كنت الأخير، فأنا القطرة التى وبالمصادفة جعلت الكوب يمتلئ، وبعدها كانت مكالمة من عبدالناصر كفاية تعيينات عندك، وكان الصحفيون والإداريون من أبناء أخبار اليوم لا يحتملون، لا نظراتنا ولا حتى أنفاسنا، كانوا يسموننا «الهنود الحمر».. كنا نذهب ونجىء ونتفانى بالفعل فى العمل ونتلقى سلامات عليها ابتسامة ماسخة وبلا معنى، وكانت كل الأحكام السابقة قد سقطت بعفو من الرئيس عن كل الرفاق وسقطت معها أحكام المراقبة الليلية (أن تبقى رهن البيت من الغروب إلى الشروق) وآن لى أن أرى كيف يكون ليل القاهرة.. وكان سامى جوهر الصحفى المخضرم والجميل جداً ومسئول الطبعة الثانية يلح علىّ فى أن أعيش معه حياته الليلية» ويردد عبارة لكامل بك الشناوى «القاهرة مدينة ليلية»، وفى البداية كانت مهمتى فى الأخبار سخيفة وبلا أى مساحة من التفكير الخلاق، فبعد مشكلات عديدة أثارت غضب عبدالناصر كثيراً.. أمر خالد محيى الدين أن أعمل فى قسم الأبحاث.. الاسم مغرٍ، لكن الواقع كان غير ذلك، فالقسم كان به اثنان، رفعت طنطاوى وحنفى سليمان، تتلخص مهمتهما فى مراجعة شرائح من ورق مبلل تسمى السلخ تضم كل ما سينشر وتشمل مهمتهما مراجعة المعلومات والأسماء والوظائف وكذلك قواعد اللغة التى أفلتت من المراجعين.. وانضممت إليهما فى مهمة ثقيلة الظل. فمحررو الأخبار وعلى رأسهم على ومصطفى أمين كانوا لا يزالون فى ظل حكم عبدالناصر يستخدمون المفردات الأمريكية النكهة، وكانت مهمتى أن أصحح هذه المفردات إلى ما يمكن تسميته النكهة اليسارية أو الناصرية كمثال:
دول الستار الحديدى = المعسكر الاشتراكى
الصين الشيوعية = الصين الشعبية
عصابات فيتنام = ثوار فيتنام
عصابات أيوكا القبرصية = ثوار أيوكا.
وفوق ذلك كانت ثمة أخبار غير ملائمة.. أو غير مدققة، كنت أقوم بتصحيحها وأتقنت هذا العمل بسرعة، وكانت عيناى تكتشفان على الفور ما يجب شطبه أو تعديله، (والحقيقة أن السبب فى الإسراع بإلحاقى بهذه المهمة هو أن الأخبار نشرت خبراً عن عودة السيد حسين الشافعى، نائب رئيس الجمهورية، إلى أرض الوطن وأضافت (وكان فى استقباله عدد من كبار «الشيوعيين») صعق حسين الشافعى وصعق خالد محيى الدين واتضح أن يداً امتدت لتشطب كبار «المسئولين» وتحل محلها كبار الشيوعيين، وجرى تحقيق دقيق ولم يكتشف الفاعل، وكنت أنا الضحية التى تم اختيارها (لضمان عدم تكرار ذلك) وأوامر رئيس مجلس الإدارة تحتم أن أوقع على كل السلخ حتى تطبع.. وكنت أقضى ساعات طويلة، وجارى أستاذ أساتذة الديسك المركزى الأستاذ فهمى عبداللطيف.. الذى أعجب بمهارتى فى اكتشاف الأخطاء وأسمانى ترجمان الثورة، والرئيس عبدالناصر لا يتسامح فى أى خطأ، فأى خطأ يهز سحباً رعدية تأتى بصواعق غير محسوبة. وقبل أن تدور المطبعة بالطبعة الأولى تستعد ثلاثة موتوسيكلات، كل منها تتلقف أول ما ينسكب منها من أعداد (أما لماذا ثلاثة موتوسيكلات فهو لضمان وصولها فقد يتعطل أحدها وقد تقع حادثة) وبعدها تأتى تعليمات وتصحيحات من مكتب الرئيس.. لتبدأ الطبعة الثانية.
وبعد نحو الشهر استدعيت إلى الدور التاسع لأقابل الأستاذ خالد.. كانت المرة الثانية التى أراه فيها، الأولى عندما قابلنى عرضاً وقال ضاحكاً «الحمد لله إنك تعينت علشان المانسترلى يبطل زن».. وفى الطريق عبرالسجادة الحمراء همس أحد الزملاء من «الهنود الحمر» كما كانوا يسموننا فى همساتهم، الأستاذ خالد عايزك تبقى مدير مكتبه.
وأستأذن القارئ فى وقفة قصيرة مع أستاذ الصحفيين وأجمل الحكائين كامل بك الشناوى.. فقد نجح سامى جوهر أخيراً فى إغوائى أو هو أغوانى بأن أنضم إلى بعض الحواريين الذين يقضون ما تبقى من أنفاس الليل فى صحبة كامل بك، قال لى تعال فسوف ترى القاهرة بجد، ومع دوران المطبعة بالطبعة الثانية تمشينا إلى فندق سميراميس (القديم) حيث قاعة نصف مظلمة اسمها «نايت أند داى» كان كامل بك والحواريون يملأون الدنيا صخباً.. نظر كامل بك شذراً نحوى وسأل بصوته الجهورى مين ده؟ فهمس سامى جوهر فى أذنه فانفرجت ابتسامة لم تزل متشككة، وسألنى تعرف صلاح حافظ؟.. والإجابة طبعاً كنا معاً طوال أغلب فترة السجن، فاتسعت مساحة الابتسامة المطمئنة وفيما بدأت جولة المساء قال كامل بك سنمشى إلى النحاسين لنأكل أحلى نيفة، وهمس سامى جوهر فى أذنى: كامل بك لا يغفو إلا مع طلوع النهار فعنده مشاعر خوف من النوم فى الظلام.. ويردد دوماً خوفه من العودة للبيت فى الظلام.. وفيما نتمشى بتؤدة على مقاس خطوات كامل بك سمعته يدندن ببعض أبيات من الشعر الجميل، وانتظرت حتى انتهى وقلت أنا أحفظ بعضاً من أشعارك السرية، فانتبه قائلاً زى إيه؟ وبدأت بأبيات من شعر قاله خلال إعلان حظر التجول بعد حريق القاهرة، وكانت طبعاً أياماً شديدة القسوة على كامل بك المتجول الليلى.. وأنشدت.
قال لى الحارس قف من أنت فى صوت مدوى
قلت قل من أنت يا حارس قبلى
وسلاحك الفاسد المنهوك سلطة على من أرسلوك
لا على السارى فقد ترمى يميناك أخوك
توقف الجميع لينصتوا فقال كامل بك وإيه كمان.. فقلت من قصيدة أخرى:
يا ترسملونا يا تبلشفونا ينعل أبوكم على أبونا
وسأل كامل بك هامساً ونحن نمشى بعد أن اتكأ على كتفى فى مودة: شفت الشعر ده فين؟ قلت فى مجلة «الكفاح السرية» فقال «يا نهار أسود، ومين قالك إن الشعر ده بتاعى»، فقلت وقد زال الحرج: صلاح حافظ وصاح: ابن «........»، وسأل الآخرون ولم يجب ولا أنا أجبت.. ولكننى وبعد عدة أيام وكنا فى طريقنا لنأكل أحلى طعمية عند الحلوجى قلت: كنت عاوز أسألك يا كامل بك على حكاية حضرتك مع الريس عبدالناصر.. فقال فى مودة «احتشم يا فتى» وألححت وألح الجمع وأنا شجعته: أنت ستحكى وأنا سأحكى ما أعرف.. وحكى كامل بك.
ذات يوم قرر الرئيس (عبدالناصر) أن يلتقى شهرياً مع رؤساء تحرير الصحف ويتباسط معهم، واتجه الرئيس إلى كامل بك «إيه آخر نكتة يا كامل بك؟» فرد «أنا لا أسمع نكت يا ريس وما ليش فى النكت»، فضحك عبدالناصر يا راجل أنا عارف كل حاجة وعارف إنك فابريكة نكت.. قول آخر نكتة.. وبعد تردد من جانبه وإلحاح من الرئيس قال كامل بك: إدينى منديل الأمان يا ريس، وأخرج عبدالناصر من جيبه منديلاً وأعطاه كامل بك الذى كان لم يزل متردداً لكن التململ تبدى على وجه الرئيس وخشى البك من سوء العاقبة فقال: بيقولوا إن سيادتك أمرت بمنع مساحات العربيات.. وسأل عبدالناصر ليه؟ وأشار البك بحركات سبابتى اليدين وهما تهتزان مثل المساحات وقال: علشان المساحات بتقول لأ.. وضحك عبدالناصر بتحفظ، وقال له خلاص دى تبقى آخر نكتة.. وصمت كامل بك، وأكمل عبدالناصر: آخر نكتة فهمت؟ فرد حاضر ياريس، (ولكنه لم يستطع أبداً أن يتوقف، وكان فقط يهمس بنكتة فى آذان خاصته) لكنه قرر أن يأخذ ثمناً، فقال للريس وهو يلوح بمنديل الأمان: «يا ريس فيه ولد صحفى زى الفل وصحفى أكثر من ممتاز وغواه أولاد الحرام.. فاتسجن 8 سنين، وسأل عبدالناصر مين ده؟ والإجابة: صلاح حافظ، وقال عبدالناصر: ده بتاع انتصار الحياة؟ (وكان هذا عنوان عموده الشهير فى روزاليوسف) وأجاب كامل بك أيوه يا افندم، وسأل عبدالناصر: تضمنه؟ أضمنه يا افندم ده أنا اللى مربيه، وقال عبدالناصر: خلاص حيخرج بس انت المسئول، والرد الطبيعى: حاضر يا افندم» وفيما الجميع يصغون ويلتهمون أقراص أحلى طعمية وهى ساخنة بدأت أنا أكمل، وصلت رسالة كامل بك إلى صلاح وهو معنا فى سجن جناح، وعلى المظروف نفس اللقب الأثير لدى والد صلاح حافظ «السيد الدكتور الطبيب صلاح حافظ» (كانت هذه أمنية الأب لكن صلاح خشى من أن يتخرج فتلتهمه الوظيفة فأوقف قطار التخرج ليتبقى له عام واحد على التخرج».. ولكن الأب يعاند. وبما أن كامل بك كان واثقاً من الإفراج فقد قرر أن الفتى الطائش يجب أن يتخرج.. وبعدها أكمل كامل بك فقال «فى الشهر التالى استقبلنا عبدالناصر بتحفظ وتكلم بتحفظ وأدلى بملاحظات قاسية، وبعد الملاحظات تجرأ كامل بك قائلاً «يا أفندم حضرتك وعدت بالإفراج عن صلاح حافظ فرد عبدالناصر خرج خلاص، واستجمع كامل بك أطراف شجاعته يا افندم لسه مخرجش.. وشخط عبدالناصر أنا بأقول خرج، فاهم؟ وسكت كامل بك» وأكملت أنا، وبعدها بأسابيع أتى جواب وعلى المظروف السجين ا