السطور التالية لا تتعلق بقضية خاصة كما قد تبدو من ظاهرها، ولكنها قضية عامة تمس أسلوب تعامل الدولة، أو بالأصح بعض هيئاتها وأجهزتها، مع فئة من مواطنينا لم يستسلموا لأوجاعهم ولم يكتفوا بالأنين والبكاء، بل تحدوا ظروفهم القاسية التى فُرضت عليهم وتغلبوا عليها، غير أن بعض الجهات بالدولة تصر على حرمانهم من حقوقهم المشروعة التى نص عليها الدستور الذى جرت صياغته من لجنة ضمت ممثلاً عن هؤلاء المواطنين الذين يستحقون كل التقدير والاحترام.
القضية تبدأ برسالة تلقيتها من شاب من بين «متحدى الإعاقة» أنشرها كما هى حتى بأخطائها دون أى تدخل من جانبى، وإليكم نصها:
«السلام عليكم..
أنا اسمى على محمد مبروك عبدالعليم، حاصل على ليسانس حقوق بتقدير جيد 2013.
أنا شاب معاق وأختى معاقة ونحن الآن حمل ثقيل على أمى بعد وفات أبى فى أكتوبر 2015، أبى لم يكن موظفاً لذلك لم يكن له معاش.
إعاقتى عبارة عن ضمور بالعضلات مع صعوبة فى الاتزان أثناء المشى ناتج عن خلل عضلى.
أما إعاقت أختى عبارة عن شلل أطفال جعلها جليسة كرسى متحرك منذ الصغر.
أما الأم، وهى من تحملت الكثير وهى صاحبة الـ64 عام والتى تعانى من مرض السكر والمرض الضغط بخلاف كبر السن، فهى من تعولنا بعد وفات أبى.
وأنا وأختى وأمى نعيش بدخل شهرى 646 جنيه من الضمان الاجتماعى، وهو معاش أختى ومعاش أمى من الضمان الاجتماعى.
نحن الثلاثة نطالب فقط بفرصة عمل بالحكومة تحت نسبة الـ5% المخصصة للمعاقين وفقاً للدستور.
لقد وعدتنا وزارة التضامن الاجتماعى بأن يوفروا لى فرصة عمل بوحدة سدس الاجتماعية التابعة للوزارة لكن حتى الآن لم يفى مَن وعد بوعدة.
وكان ذلك الوعد على ليسان مساعدة الوزير الدكتورة نيفين القبانى.
أنا نفسى أن أفرح وأن لا تتجاهلنى الدولة بسبب إعاقتى، أنا نفسى أن يتم تطبيق الدستور وبخاصة المادة 82 منه والتى نصت على التزام الدولة بتوفير فرص عمل للمعاقين. وأنا معاق وموافق ومقر بأى فرصة عمل بالحكومة ولو لم تناسب المؤاهل، المهم أن تناسب الإعاقة والأهم أن تكون قريب لكى أستطيع أن أصل إليها.
أنا من عذبة الشيخ سراج مركز ببا محافظة بنى سويف».
إلى هنا انتهت رسالة الشاب التى كشف فيها عن معاناة أسرته وتجاهل وزارة الشئون الاجتماعية لظروفه الخاصة وحقه فى التعيين وفقاً لنص الدستور رغم ضآلة دخل أمه وأخته من معاش الضمان الاجتماعى وظروف مرضهم وتكاليف علاج الأم، وكلنا نعلم مقدار هذه التكاليف ومدى المعاناة التى يلقاها المرضى فى المستشفيات العامة إذا ما تجاوز أحدهم حال هذه المستشفيات وخاطر بحياته بالعلاج فيها، إذ إنه سيتلقى كل شىء فيها عدا «العلاج»..!
ويبدو أن وزارة التضامن الاجتماعى اكتفت فقط بالتشدق بما تضمّنته نصوص الدستور فيما يتعلق بحقوق المواطنين دون ترجمتها على أرض الواقع، وبالتالى فقد تجاهلت «الدكتورة نيفين القبانى» -وبالمناسبة لم أتشرف بمعرفتها من قبل- طلب الابن «على مبروك»، وحتى لم تحدد له أى موعد لمنحه حقه كما لو كان كل ما يهمها هو فقط «ترتيب الأوراق»..!
ولمن لا يعرف، والأصح لكل من يتجاهل حقيقة هؤلاء الذين لا يزال البعض ينظر إليهم على أنهم «معاقون أو أصحاب الاحتياجات الخاصة»، فهم فى حقيقتهم ليسوا فى احتياج لأى شىء، وهم أصحاب «القدرات الخاصة» لا الاحتياجات الخاصة، وليسوا معاقين أو معوقين (بكسر حرف الواو) بل هم «متحدو الإعاقة» فـ«الإعاقة» ليست جسدية، وإنما الإعاقة الحقيقية تتبلور فى الإعاقة الفكرية، والعجز ليس عجز الجسد إنما عجز الروح، وكف البصر لا يعنى «العمى»، فـ«العمى الحقيقى» هو عمى البصيرة..!
هؤلاء الإخوة والأبناء يجب احتسابهم أبطالاً، فهم لم يستسلموا لأوجاعهم وظلوا من بين الذين يتألمون ويتوجعون فى عجز وقلة حيلة.. لم يستكينوا لآلامهم، لم يتسلل إليهم اليأس أو الإحباط، لم يرفعوا الراية البيضاء أمام حالتهم الصحية، بل على العكس تمردوا عليها وجسّدوا معنى «الإرادة والتصميم» فى صورة كائن حى يتنفس. ويكفى هنا أن نتذكر أن فريقاً من هؤلاء الأبناء، لا يتجاوز عددهم 45 لاعباً ولاعبة، شاركوا فى 5 رياضات فقط فى «بارالمبياد ريو دى جانيرو» قبل أكثر من عام وقد ظلوا طوال أيام الدورة يتنقلون كـ«الفراشات» بين ملاعب العاصمة البرازيلية ليرفعوا فى النهاية علم مصر.. وصعدوا بمقاعدهم المتحركة إلى القمة بحصاد بلغ 12 ميدالية منها 3 ذهبية و5 فضية و4 برونزية فيما عجز 124 لاعباً ولاعبة (ممن يقال عنهم أصحاء) سوى عن حصد 3 ميداليات برونزية فقط رغم أنهم شاركوا فى 24 لعبة بـ«الأولمبياد»..!
وهناك أيضاً من يتوهم أن فئة من أطفالنا يعانون من «الإعاقة الذهنية»، والصحيح أن غيرهم هم من يعانى من هذه الإعاقة، فهؤلاء الأبطال الصغار نجحوا قبل أقل من أسبوعين فى حصد 5 ميداليات منها ثلاث ذهبيات وفضية وبرونزية فى الدورة الأخيرة للألعاب العالمية الشتوية للأولمبياد الخاص التى استضافتها العاصمة النمساوية فيينا.
وعلى الرغم من أن ملامح وجوه أبطال «البارالمبياد ودورة فيينا» ظلت مجهولة حتى لجيرانهم إلى لحظة إعلان فوزهم وظهورهم على شاشات التليفزيون فإن عواصم دول مختلفة كانت شاهدة على ادعاءات وزيف وفشل آخرين «ممن يظنون أنفسهم أصحاء» وتتراشق أخبارهم وصورهم فى صدر الصفحات الأولى للصحف لتنافس إعلانات المياه الغازية ولا يغيب حضورهم على شاشة أى قناة تليفزيونية حتى بعد انتهاء موعد الإرسال!!
بقيت كلمة أهمس بها فى أذن الابن على: أنت لست معاقاً أو معوقاً (بكسر حرف الواو) فغيرك هو المعوق.. ولست صاحب احتياجات خاصة، بل «قدرات خاصة»، والدليل على ذلك أنك أكملت تعليمك رغم ظروفك الصحية والاجتماعية الصعبة بينما فشل آلاف غيرك فى ذلك رغم ظروفهم الصحية والاقتصادية المتميزة..!