تركيبتنا الثقافية وخلطتنا السرية وهويتنا النفسية تفرض نفسها فرضاً على تقييماتنا. طريقتنا فى الحكم على الأشخاص والأشياء تخضع لعاطفة جياشة وتتأثر بلفتات ولمحات ولمسات لا وجود لها فى عوالم القياس. وأقول قولى هذا، وأجرى على الله، فإن الغالبية المطلقة من قياسات الرأى واستطلاعات التوجه لدينا تدور فى فلك «مدى رضا الشعب عن أداء فلان» أو «حجم التأييد لسياسات ما» أو «توقعات انتخاب شخصية هنا أو هناك» لا تأخذ فى الحسبان التركيبة النفسية والثقافية التى تدفع المصريين إلى إصدار الأحكام. صحيح أن مواجهة صعوبات معيشية، لا سيما فيما يختص بالاقتصاد، تجعل تقييم أداء الملائكة تقييماً يفتقد الموضوعية، لكننا بشر متعبون منهكون محبطون. بعضنا يعلم أن جانباً مما نحن فيه نتاج تراكمات عقود ومؤامرات لم تكن فى الحسبان، والبعض الآخر يرفض أو ينكر أو تمنعه همومه من أن يتعمق فى التفاصيل ويدقق فى التفاسير. ونعود إلى مسألة الشعبية وما يتم الهرى فيه هذه الآونة حول «شعبية الرئيس» هل ما زالت محلقة فى السماء، أم انخفضت بعض الشىء، أم انخفضت كثيراً؟ ولأن زمن الاستقطاب لا يعترف بالاستنتاج، ولا يلتفت للعوامل التى ترفع أسهم هذا وتخسف بالأرض أسهم ذاك، بل لا يترك مجالاً من الأصل للسائل عن الشعبية أن يحلل المقصود بها، أو للمسئول (الذى يُسأل) أن يدقق فى الإجابة، فإنك ما إن تسأل أحدهم عن «شعبية الرئيس» حتى يطلق العنان لملفين لا ثالث لهما: الحب والاقتصاد. والاقتصاد هنا لا يهتم كثيراً بالجنيه، أو التعويم، أو حجم الاستيراد، أو مقدار التصدير، أو موارد السياحة، أو تحويلات العاملين فى الخارج، أو قيمة الدعم، أو موقف الصناعة الوطنية، أو حال قناة السويس، أو طبيعة المدخرات. وطبعاً لا يتوقف المجيب كثيراً أو أبداً عند وضع الاقتصاد العالمى، أو موقف اقتصاد منطقة الشرق الأوسط فى ضوء التمددات الداعشية، والتوغلات العسكرية، والتهديدات الأمنية، والمصالح الدولية المتحاربة. وهذا طبيعى ومنطقى، فمن يشترى دجاجة بـ30 جنيهاً وطماطم بتسعة جنيهات وعلبة اللبن بـ13 أو 14 جنيهاً (دون طرق باب اللحوم من الأصل) لا يفكر فى ركود حركة التجارة العالمية، أو جمود النمو الدولى، أو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، أو الأضرار الاقتصادية لواردات الألومنيوم فى الولايات المتحدة الأمريكية. وإن تهور السائل وفقد عقله وحاول أن يلمح له بضرورة مراعاة المشهد الاقتصادى الدولى والوضع التجارى الأممى والحال الأمنى الشرق الأوسطى، فإنه سيسمع ما يعاقب عليه القانون (وقت كان يُطبق) وما تحمر له الخدود (وقت كان هناك حياء). لذلك فإن أولئك البسطاء وأبناء الطبقة المتوسطة بفئاتها ممن ما زالوا يؤمنون بأن عليهم مد أجل التحمل وتوسيع أفق التدبر وتضييق مجالات التذمر هم أبطال تُحتذى ونماذج قلما توجد فى المعمورة.
وعلى الرغم من خطر الإرهاب، وتربص جماعات الشر بدرجاته والانتقام بأنواعه والذئاب ما تحرك منها فى مجموعات وما مال منها إلى التفرد، ورغم إيمان الأغلبية -باستثناء البعض من معتنقى نظرية الشرطة تفجر نفسها والنظام يفخخ المواطنين بغرض الإلهاء- بأن الإرهاب خطر حقيقى يتربص بنا، فإن شعوراً يتنامى لدى البعض بأن من لم يمت بـ«بُمبة» الإرهاب مات بصدمة الاقتصاد. ولأن الطبيعة البشرية تميل إلى التأقلم مع الأوضاع مهما كانت مريرة، واعتياد الأخطار مهما بلغت من حدة، فإن خطر الإرهاب -رغم أنه حقيقى ومستمر- إلا أنه لم يعد يرهب الناس كما كان قبل أشهر. وفيما يختص بالحب، وبحسب القول الشائع «نحن شعب عاطفى»، ونضيف هنا إلى «عاطفى» نعوتاً مثل جياش ومتسرع ويميل إلى السير تبع المراكب السايرة سواء كانت تسير صوب عمق البحر أو حافة البر أو بعرض البحر. وعلى الرغم من سمة الاستمرارية فى مقولة «نحن شعب عاطفى» فإن عاطفتنا تلونت فى السنوات الأخيرة بألوان «السياسة وسنينها». فمن غسل الإخوان دماغه، وتمكنوا من أوصاله، وتحكموا فى حياته يحب الرئيس الأسبق محمد مرسى بكل جوارحه حتى وإن كان لم يسمع عنه قبل يوم تنصيبه. ومن يجد نفسه اليوم مضطراً لعقد المقارنات بين نوعية حياته إبان حكم الرئيس الأسبق مبارك وما يعانيه اليوم فلا همّ له هذه الآونة إلا الترحم على تلك الأيام الرغيدة والعيشة الجميلة والخيرات والوفيرة التى أزهقها من خرجوا فى يناير. وبين هؤلاء من يحلم بأن يكون هناك إحياء لهذا العصر عبر جمال هنا أو علاء هناك. بل الأدهى من ذلك أن البعض يتغزل فى الحالة الأمنية وقت كان العادلى وزيراً والحالة الاقتصادية وقت كان نظيف رئيساً للوزراء. وهناك من يحب الرئيس السيسى ويجد نفسه مؤيداً له معضداً لما يقول مناصراً لما يفعل دون إخضاع الأفعال والأقوال لمقاييس عملية أو معايير فعلية. منهم من يدين له بهذا الحب لأنه خلص البلاد والعباد من خطر الإخوان، ومنهم من يحمل مشاعر الود لراحة نفسية لا يجد حاجة لتبريرها. وهناك أيضاً من يرتكن إلى العاطفة المذكورة لكن يعضدها بقناعة عملية بما يفعله الرجل وثقة منطقية بأن ما أفسدته عقود لن يصلحه رئيس فى عام أو بضعة أعوام، وما يتم إنجازه فى عهد السيسى هو بمثابة بنية تحتية لأجيال مقبلة لن تعترف بها الحالية لأنها لن تستمتع بريعها. وتظل «شعبية الرئيس» عبارة يرددها الجميع هذه الأيام بعيداً عن أى قياسات حقيقية لمحددات الشعبية واكتفاء بمبدأ «حبيبك يبلع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط».