أدخل إلى صالة فسيحة تكتظ بأشخاص منكفئين على أجهزتهم لا يشعرون بما يدور حولهم من شدة انهماكهم فى العمل، يقتادنى شخص إلى كرسى تقبع وراءه نافذة أطل منها لأخفف من حدة انتظار حكم بقبولى فى العمل أو إسدال الستار على حكاية لم تبدأ بعد.. الأصوات تتعالى والحركات تتوالى، وأسئلة لا إجابة لها تجول بخاطرى.. «هل أثبت نفسى؟ كيف سيعاملنى هؤلاء؟ هل أتحدى فقد بصرى وأصير صحفياً حقاً؟».
اليوم، وبعد مرور 5 سنوات داخل الصالة نفسها، أستطيع أن أجيب عن تلك الأسئلة.. فالزملاء، الذين خشيت الانخراط بينهم، صاروا، اليوم، عيناً لى على كل شىء لا أبصره.. وأصوات طقطقات أجهزة الكمبيوتر، التى كانت تزيدنى توتراً، باتت تطرب أذنى مع كل حدث جلل يستوجب بذل الجهد لتغطيته.. وصرت أركض فى تلك الصالة الفسيحة بعد أن كنت، بالأمس، أبطئ السير فيها خائفاً من شىء يعترض طريقى.
لم أتصور، يوماً، أننى سأكون جزءاً من الأحداث، أتفاعل معها وأمكث أياماً بلياليها لتغطيتها، فها أنا لا أبرح مقعدى، ليومين كاملين، أثناء مشاركتى فى تغطية أحداث ثورة 30 يونيو، ثم أنحى مشاعرى جانباً لأحصل على المزيد من التصريحات حول حادث إرهابى خلّف عشرات الشهداء، ولا أنسى صورتى التى التقطها لى أحد أصدقائى وأنا نائم على كرسى أنتظر لحظة افتتاح قناة السويس الجديدة فى أغسطس عام 2015، ناهيك عن انتخابات رئاسية حضرتها مرتين بكل تفاصيلها داخل صالة تحرير «الوطن».
«سأكتب عنهم.. لأننى منهم»، ذلك كان لسان حالى حينما استعرت قلوب أقرانى من ذوى الإعاقة لأعيرهم قلمى، فرحت مع «صبرى عطية»، الكفيف الذى كان بطلاً فى «الكاراتيه»، وبكيت مع «لمياء عثمان»، التى تغلبت على إعاقتها الحركية بقراءة الكتب للمكفوفين، وأعطيت أصابعى لـ«سامح صبرى» يكتب بها ويعبر عن أحلامه بعد أن أفقده الإهمال أصابع يديه، ودخلت عالم «الصم» الذين صرخوا فى وجهى باحثين عن تعليم جاد يكسر صمت واقعهم.
الساعة تقترب من الثالثة مساء يوم 18 يونيو عام 2015، وبينما أنا جالس فى مكانى الذى يتوسط صالة التحرير، يتجه صوبى بضعة من أصدقائى مهنئين مستبشرين بإدراج اسمى ضمن المقبولين بلجنة القيد فى نقابة الصحفيين، أتحرك من مكانى متجهاً إلى ذات النافذة التى شهدت على لحظات أولى لدخولى ذلك المكان، أمسك بها وأخبئ فيها دموعى كما خبأت، من قبل، مخاوفى، ثم أسألها: «هل أنا على العهد؟».
تلك لن تكون النهاية.. فما زلت أبحث عن موضوع صحفى لم أكتبه، ولم يهدأ شغفى بالدخول إلى قلوب الصابرين لنقل أفراحهم قبل أوجاعهم.. ويبقى يقين دائم بأن المقبل أفضل لـ«الوطن».. صغيره وكبيره.