«الإنسانية هى الابنة الشرعية للحياة بما لها وما عليها.. آثرت أن أقدم لأجيال شبابنا والأجيال اللاحقة من النشء تلك القدوة من النموذج فى العطاء والتألق، بما يدفعهم إلى بذل الجهد الصادق والأداء المتميز للوصول إلى آفاق ومستويات مبهرة»، هذه هى الكلمات التى خطّها الدكتور مصطفى الفقى فى افتتاحية سِفره الجديد «شخصيات على الطريق»، يُبحر مع القارئ عبر جدارية دافئة وعفوية، وثرية بالمواقف ودروس التعلم تحمل 113 شخصية من الشخصيات الوطنية والاستثنائية داخل مصر وخارجها ممن جمعت بينهم قواسم مشتركة من المواطنة والعطاء والتميز والإبداع والتفرد، كل فى مجاله.
يقع الكتاب فى نحو 350 صفحة، ولكنك لا تملك أن تبارحه ما إن تبدأ فى قراءته؛ لأن كاتبه، بحرفيته وخبرته الكتابية، استطاع أن يحول بين القارئ وبين الملل فى حديثه عن هذه الشخصيات «القدوة»، فبمجرد أن تعيش مع أسطر معدودات عن الشخصية فإنك تسعى إلى المزيد حتى تجد الكاتب، بإبداع أهل الكتابة الأدبية، يجعل عنصر «التشويق» قائماً معك؛ لأنه يختتم حديثه عن تلك الشخصية منتقلاً فى الوقت ذاته إلى أخرى، وهكذا تجد ذاتك فى حضرة «غيض» من فيض ما تحب أن تعرفه عن شخصيات الكتاب مثل: عائشة عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وإبراهيم بدران وصلاح عبدالصبور وسليمان حزين، وغيرهم، فى تنوع وإلهام وإثراء للقارئ، قلما يجتمع، وعبر أربعة أبواب، خُصص كل باب لمجموعة من سفراء الإبداع والرقى الإنسانى.
أجمل ما يوقفك فى هذه الشخصيات هو هذه «الهمسات» بينك وبين ذاتك بعد توقفك كثيراً أمام محطات وعلامات فارقة فى تاريخ كل منهم؛ لتكون همساتك: ماذا لو؟
ماذا لو قُدّر لقامة وعلامة كـ«إبراهيم شحاتة» أن يتولى رئاسة وزراء مصر فى أهم مراحل العمل التنموى، الرجل الذى تخرج فى أعرق جامعات العالم «هارفارد»، وأول مصرى يصل إلى مكانة دولية مرموقة، (النائب الأول لرئيس البنك الدولى)، وصاحب إصدار لن يستطيع أحد أن يضاهيه فيه، به علاج عملى لكل الأمراض والأوجاع المصرية، إصدار يعرفه أهل صناعة التنمية فى كل أنحاء العالم إلا مصر، وهو كتاب «وصيتى لبلادى»، وله كرسى باسمه فى قانون التنمية فى جامعة لندن حتى تاريخه، ولكن كما ذكر الدكتور الفقى: «لا كرامة لنبى فى وطنه»، فقد رحل الدكتور «إبراهيم شحاتة» بعد رحلة مرض تاركاً وصيتين: إحداهما لأسرته وقد نفذوها، والثانية «وصيتى لبلادى» وهى ما زالت تبحث عمن يهب لها النفاذ.
ماذا لو قُدّر لقامة ونابغة فى الاقتصاد من رموز كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة مثل «دكتور عمرو محيى الدين» شقيق الرموز الوطنية «زكريا وخالد وفؤاد محيى الدين» أن يكون وزيراً للاقتصاد ويقود اقتصاد مصر إلى بر الأمان، كيف كان لهذه القيمة أن تضيف إلى وطن كان وما زال فى حاجة إلى أبنائه الوطنيين؟.
ماذا لو قُدّر لشخصية دبلوماسية صاحبة فكر وثقافة مثل «قيس العزاوى»، مندوب العراق الدائم فى الجامعة العربية، أن يكون فى يوم ما رئيس الوزراء العراقى؛ ليقود البلاد بعقل راجح وأفق يسع الجميع دون تمييز؟ لقد بلغ الرجل من بصمته فى القاهرة أن وفداً قد زار العراق ملتمساً التمديد للسفير المثقف الوطنى، والحقيقة أنه من النادر أن يسعى وفد لطلب تمديد المقام لسفير هو أقرب إلى قلب كبير وعقل يحتوى الجميع، أين هذه النماذج اليوم؟
ختاماً، يراهن الكاتب على أن رحم الأوطان عامر بأصحاب المواطنة والمعرفة والعطاء والإبداع والقيم والإخلاص فى أداء الرسالة، ولهذا لن ينقطع الأمل ما دام هؤلاء وغيرهم ممن رحلوا، وممن وُلدوا وسيولدون باقين ومتواصلين. كل التقدير للكاتب الكبير على إمتاعنا فى رحلة «المسكوت عنه» بومضات مشرقة من سير شخصيات استثنئاية من خارج الصندوق.