من دون مبالغة، سيظل مؤتمر الشباب هو الرئة الأكثر صحية فى التفاعل الجماهيرى ما بين القيادة السياسية وبين الرأى العام، فالإطار الذى وضع فيه المؤتمر منذ دورته الأولى حسم الخيار الشفاف الذى أصبح قيداً لا يستطيع أحد الالتفاف عليه. الموجة الشبابية الكاسحة «حضوراً، وتنظيماً، وعدداً» تتجاوز أى محاولة للتجميل أو انتقاء الدبلوماسية، فى طرح القضايا الشائكة التى ظلت هى الأبرز على منصات المؤتمر بدوراته المتعددة. ولذلك تمكن المؤتمر من انتزاع التقييم الصادق والانحيازات لمتطلبات الوطن والإشارة إلى الإيجابى والسلبى، فى سهولة وتلقائية لم تخطر -على ما أظن- ببال كل المسئولين ممن يحرص الرئيس على وجودهم أمام فوهات المدفع الشبابى.
مؤتمر الشباب فى طبعته الثالثة بمدينة الإسماعيلية، جاء متزامناً مع احتفالات سيناء بعيد تحريرها، لذلك كان حضورها «قضايا، وشخصيات، وشباباً» كثيفاً وهذا مما يحسب للمؤتمر، فصوت سيناء يحتاج لأن يُسمع منا طوال الوقت، ودوماً لديه الكثير ليطرحه وهو الأهم فى لحظتها الراهنة. حيث تظل فى احتياج لأن يصل صوتها للرئيس مباشرة، وأن يستمع المسئولون عن قضاياها وشكواها وهى تطرح، وتجد رحابة التلقى من القيادة التى تدرك ثمنها الغالى وثمن ما يدور حولها وفيها. وهذا شهدته جلسات المؤتمر وأكملته الأروقة بالكثير من التفاصيل مع جميع المعنيين بملفها الدقيق، أهم ما قيل تحت هذا العنوان «من أهل سيناء» أنهم ينتظرون حل مشكلات التنقل خاصة على معابر الانتقال من الضفة الغربية للشرقية من القناة، فالمعديات العائمة وغلق «كوبرى السلام» يقيدان الحركة بشكل كبير ولا يسمحان بتدفق سلس للحركة هم فى أشد الاحتياج إليه. وهنا برزت الفجوة ما بين التعليمات العليا وما بين تعثر التنفيذ أو ارتباكه وسط التهديدات الإرهابية، فى الوقت الذى كانت فيه توجهات الدولة أكثر وضوحاً بوعيها لتلك النقطة المحورية، تنفيذ أنفاق القناة الممتدة إلى سيناء ووضع ازدواج لنفق جنوب السويس، فضلاً عن كوبرى عائم يتم إنشاؤه بجوار الإسماعيلية، هذه المحاور الثلاثة قادرة بالفعل على نقل المشهد السيناوى نقلة نوعية، والحرص على وضع «ميناء العريش» ضمن مخطط إقليم قناة السويس يعكس وعياً استراتيجياً ويستجيب لمطلب حيوى لأهالى شمال سيناء، وهذا مما يتم علاجه اليوم فى المخطط الذى نتشوق لإنجازه فيما طال انتظاره منا ومنهم.
فى صباح اليوم الثالث للمؤتمر، كنا على موعد مع «نفحة منعشة» شبابية مركزة وواعية ومسلحة بكل ما نتمناه لشبابنا كافة، الجلسة الرئيسية الأولى فى إطار عنوان «محاكاة الاقتصاد المصرى»، استهدفت صياغة مفهوم «مصر التى نريد». موضوع الجلسة وما تم طرحه بمعرفة وإعداد أربعة من الشباب المصرى، تجاوز سقف عنوانه الاقتصادى وذهب ليخترق محطات بدأت ما قبل ثورة 1952م، ووصلت إلى إجراءات الإصلاح الأخيرة التى تمت منذ شهور. الصمت المكثف من الحضور كان فى حضرة الحقيقة والشفافية التى نتناول البعض منها فى أحاديثنا الخاصة، وجدها الجميع تُطرح أمامه وأمام رئيس الدولة وأركان الحكم التنفيذى بأفضل ما يمكن العمل على إيضاحه.
درجة وعى نابهة لم نرَها من كثيرين تصدوا لمثل هذا العنوان الشائك، تقدم الشباب بجسارة واقتحم أصول وقلوب المشكلات بهدوء وإتقان، ووضع أمامنا تلك التعثرات وربطها بقدرتها الحتمية على تعثر النتائج. بالطبع لا يمكن تلخيص هذا الطرح البانورامى فى سطور محدودة، لكنى أدعو القراء الأعزاء للعودة إلى التسجيل المصور لتلك الجلسة، ففيها الكثير مما يجب الالتفات إليه والعمل عليه. وإن كان رغم مرور أيام على هذا الحدث والذى أراه «حدث المؤتمر» فى دورته المشار إليها وربما يمتد إلى ما سبقه من دورات، لم تغادرنى أطروحات من نوعية: أن المنظومة الاقتصادية والإدارية المصرية ظلت طويلاً بمعزل عن المنظومة العالمية، وانكفاءها على خدمة الداخل يعمق مشكلاتها ويقيد أداءها، ما دامت لا تخضع لمعايير الجودة واللغة التى يفهمها ويتحدث بها العالم. وبعدها: أن الخلل الفادح فى أجهزة إدارة الدولة المختلفة والتى تخصم بعمق من إنتاجيتها، أنها تعمل بنظرية الجزر المنعزلة، ولم يتقدم حتى الآن من هو قادر على صناعة الجسور التى تعظم من إنتاجيتها. ومن هذه النقطة كان الانتقال إلى: غياب القاعدة المعلوماتية الشاملة والدقيقة والأحدث تكنولوجيا لخدمة صناع القرار، والتى هى عملية ممتدة وخاضعة للتحديث والمرونة طوال الوقت وليست مهمة المرة الواحدة، حيث يمكنها أن تحفظ الذاكرة الخططية وتساهم فى ضخ المطلوب لتطويرها على الفور، فكثيراً ما وقعنا فى فخ «البداية من نقطة الصفر» رغم تراكم بعض من الخطوات فى الطريق الصحيح.
ما يمكن تناوله أيضاً وما تم التوصية به بدرجة أهمية بالغة هو: أن هناك فجوة هيكلية هائلة فى عمل «المحافظات» المصرية، تتلخص فى منظومة إدارة تقادمت بل وتتسبب اليوم فى قدر كبير من الإخفاق، ما بين المحافظة التى لا تملك من أمرها شيئاً وبين إدارات الوزارات المختلفة الموجودة بنطاق تلك المحافظة. كلاهما لا ينتظم فى خطة شاملة واضحة المعالم، فيظل التشويش والإنهاك متبادلاً بينهما، ويخسر الوطن جهداً هائلاً غير مدرك فى أى اتجاه يسير، وتغيب عن المحافظات التى من المفترض أن تكون قاطرة الدفع إلى الأمام دورها، وتظل سجينة الترهل وغياب الرؤية وتحديد المهام والتكليف بالإنجاز والحساب على التقصير.
الرئيس السيسى على وقع التصفيق والإعجاب العام بما تم طرحه من تلك المجموعة الشبابية المحترفة، كلفهم بانتظامهم فى آلية تتعاون مع الرقابة الإدارية وتعمل على اقتحام ما تم استعراضه، شريطة التزامهم بتقييم ما أمكن إنجازه أو تسبب فى إخفاقهم، أمام دورة انعقاد مؤتمر الشباب المقبلة على الهواء مباشرة. التقدير واجب للرئيس سريع البديهة والقرار، والشكر لهذه المجموعة الشبابية مقرون بتمنيات قدرتهم على الإنجاز واختصار الزمن.