لا شك أن زيارة البابا فرنسيس مليئة بالدلالات الإيجابية بالنسبة لمصر ونظامها السياسى وأحوالها المجتمعية، وهو ما يلخصه الشعار الخاص بالزيارة، الذى جاء فى تعبير بسيط: «بابا السلام فى بلد السلام»، ولكنه غنى بالمعانى، فالزائر الكبير عُرف عنه ميوله الإصلاحية والمُحبة للغير، والانفتاح مصحوباً بالاحترام لأصحاب الديانات الأخرى. أما البلد، أى مصر، فيعيش أوضاعاً استثنائية ويجاهد من أجل البناء والخروج من عنق الزجاجة الاقتصادى والأمنى، ويسعى للحفاظ على هويته الحضارية والتاريخية كبلد متسامح مع نفسه وأبنائه، كما هو متسامح مع الغير، ساعياً للسلام معهم دون هوان.
طرحت الزيارة الكثير من المعانى، بحيث أصبح الشغل الشاغل للبعض منا هو كيف نوظف تلك المعانى للرد على كل الإساءات والتربصات والمخططات التى تسعى إلى إفشال البلد وإعاقة مسيرته والزج به إلى أتون فوضى مؤسساتية وحرب أهلية، فضلاً عن الرد أو على الأقل احتواء النتائج غير المبشرة وغير الودية التى تأكدت فى جلسة الاستماع فى الكونجرس الأمريكى حول الأوضاع المصرية والتى ركز المتحدثون فيها على إظهار نظام 30 يونيو والرئيس السيسى فاشليْن ويدفعان بالبلد إلى وضع صعب على المدى المتوسط، وبما يستوجب من الإدارة الأمريكية، وفقاً لتوصياتهم، موقفاً حاسماً بتخفيض المعونات وربطها بمفهوم معين لحقوق الإنسان، وإعادة هيكلة الجيش المصرى ومنع تسليحه بالأسلحة الحديثة، والاكتفاء بالتدريبات المشتركة والأسلحة الخفيفة والمجموعات القتالية لمواجهة الإرهاب. والحق أن ما قيل فى جلسة الاستماع هذه كان قد نُشر سابقاً من قِبل المتحدثين الثلاثة فى صورة تقارير أصدرها مركز كارنيجى ومجلس دراسات الشرق الأوسط للعلاقات الخارجية، واحتوت على كل ما يمكن تصوره من انتقادات ومغالطات وتشويه مقصود ومتعمد لكل تطور حدث فى مصر منذ يونيو 2013 وحتى تاريخه، مع إغفال تام لأى تطور نتج عنه أثر إيجابى، والأكثر من ذلك إضفاء شرعية مصطنعة وزائفة على جماعات العنف والإرهاب فى سيناء وتسويق ما تقوم به باعتباره تمرداً مسلحاً مبرراً.
والمفارقة أن الفاصل الزمنى بين جلسة استماع الكونجرس وزيارة البابا فرنسيس لمصر لا يتعدى ثلاثة أيام، لكن الفرق شاسع بين وقائع الحدثين ودلالات كل منهما. وهنا يصبح التساؤل عن توظيف الحدث الثانى فى الرد على بعض ما جاء فى الحدث الأول مهماً فى حد ذاته، ولكننا وكما هو معروف عنا كشعوب ومجتمعات سريعة التأثر، وفى تلك اللحظات تعلو الأصوات وتُطرح الأفكار المهمة، ثم تخفت رويداً رويداً دون تحقيق أدنى استفادة يمكن الحصول عليها، وبما يؤكد أننا شعوب لا تهتم كثيراً بالتخطيط بعيد المدى وإرادة التنفيذ وسياسات التطبيق. وفى مواقف مهمة سابقة، كزيارات الرئيس السيسى للخارج، التى تحقق نجاحاً ملموساً فى وقتها، أو زيارات مسئولين كبار للقاهرة كالرئيس بوتين والرئيس الصينى شى جين بينج وغيرهما كان التساؤل نفسه مطروحاً، ثم يتلاشى الاهتمام وكأن شيئاً لم يحدث.
القصد هنا ليس مجرد رد الفعل الآنى للحدث المختلط بالمشاعر الجياشة، التى حتماً تخفت بعد زمن قليل، بل أن يكون لدينا أسلوبنا الخاص فى التأثير الإيجابى على الحوارات الجارية فى الإقليم أو فى مراكز صنع القرار الدولى بشأن الأوضاع فى مصر. ومعروف أن جهة مصرية سيادية تعاقدت مع إحدى شركات العلاقات العامة فى الولايات المتحدة للتواصل مع ذوى الشأن فى الإعلام الأمريكى وفى الكونجرس وفى الشركات الكبرى، لغرض تحسين الصورة المصرية لدى هؤلاء واستقطاب من يمكن استقطابه للوقوف ضد الدعاية المضادة. ويبدو أن الشركة لم توفق بعد فى مهمتها، ربما لأنها لم تتحرك إلا منذ فترة قصيرة. والدليل على عدم التوفيق هو ما جرى فى جلسة الاستماع فى الكونجرس آنفة الذكر.
التعاقد مع شركات العلاقات العامة ليس مرفوضاً فى حد ذاته، فهذا تقليد أمريكى معمول به وتمارسه كل دول العالم تقريباً، ولكنه يصلح فى مهمة محددة وفى مدة معينة، لا سيما التى تؤخذ فيها القرارات أو تطبخ فيها تلك القرارات التى تمس مصالح مصرية خاصة فى أروقة الكونجرس بمجلسيه الشيوخ والنواب. أما على المدى المتوسط والبعيد فلن تُحقق شيئاً يذكر اللهم فقدان مبالغ مالية طائلة. كما أن اعتبار زيارات الرئيس للخارج كافية فى قلب الأوضاع لصالح مصر ليس أمراً مسلّماً به، فالزيارة أو استقبال ضيف من الوزن الثقيل عالمياً كالبابا فرنسيس، سيؤدى دوره بالفعل ولزمن معين، ومع ذلك فهى خطوات ليست كافية وحدها بالمرة. فالدول والأمم مثل أى كيان بشرى له «ماركة» أو صورة معينة لدى الرأى العام، كبلد خالٍ من العنف، أو ينهض من سباته الاقتصادى، أو حقق انتصاراً كبيراً على الإرهاب وأصبح آمناً، وهو ما يتطلب جهداً مستمراً فى أكثر من اتجاه، كمراكز الفكر التى تصوغ عقل المسئولين صانعى القرار فى بلدانهم، وقادة الإعلام بما ينشرونه ويحددون به ملامح الحياة فى البلد المعنى سلباً أو إيجاباً، ومع أعضاء البرلمانات، ومع رجال الصناعة والأعمال، ومع كل فئات المجتمع دينياً وفنياً ورياضياً. وهنا سوف نجد من يقول لنا كيف نمول وكيف نتحرك؟ وهو السؤال المفتاح الذى يُفسر غياب الكثير من أشكال التواصل المطلوب، فى الوقت الذى تتوافر فيه الأموال وآليات التواصل لدى الطرف الآخر سواء بحكم الإقامة فى هذه البلدان، أو نظراً لحصوله على تمويل هائل من أطراف تتربص بمصرنا وتشيع عنها كل أمر سيئ.
وبينما نذهب نحن كباحثين أفراد لنشارك فى مؤتمر دولى يعقد لمناقشة أمر يخص مصر ودورها وشئون العرب، محاولين وضع الحقائق والتفسيرات الدقيقة أمام المشاركين من جنسيات مختلفة، نجد أنفسنا معزولين بحكم مشاركتنا كأفراد لا يزيدون على عدد أصابع اليد الواحدة، بينما نجد جنسيات أخرى تشارك بالعشرات حيث ينتشرون فى قاعات المؤتمر ليدفعوا عن بلدانهم أى نقد مهما كان بسيطاً. قِسْ على ذلك غياب تام للتفاعلات الفنية والثقافية وقليل جداً من التفاعلات الدينية فى مناسبات محددة، فكيف يمكن أن نتوقع من الآخر أن يتفهم أوضاعنا؟. لا مفر من صياغة استراتيجية وبرنامج عمل وتمويل مناسب لرسم صورة حقيقية عن مصر تنفذه جهات مصرية مع نظرائها فى الخارج طوال العام، وإلا سيأتى رموز كبار ويغادرون وبعدها تظل الصورة المشوهة بلا تغيير.