المؤكد أن 26 ساعة لا تمثل شيئاً فى عمر الدول والأمم إلا أن هذه «البرهة الزمنية» اكتسبت أهمية كبرى وأحدثت انقلاباً واضحاً فى وسائل الإعلام الدولية التى تسابقت على تسجيل «لحظات» زيارة البابا فرانسيس لمصر، التى تعد بالفعل زيارة تاريخية.
لم يكن وصول البابا للقاهرة مجرد بداية زيارة «رجل دين» عابر لعاصمة دولة تشغل حيزاً فى «أطلس جغرافيا» العالم، فـ«البابا» هو رجل الدين الأول فى أوروبا كلها «وما أدراك ما هى أوروبا ومواقفها الأخيرة تجاه مصر».. أما القاهرة فهى أحد «الكراسى الرسولية» الخمسة على مستوى الكنيسة العالمية، إضافة إلى أنها تضم مسار العائلة المقدسة من بيت لحم إلى وطن لم تكن «الفرقة والتمييز الدينى أو العرقى» من مفردات لغة أبنائه فى أى وقت من الأوقات، فاستحق أن يكون «أرض السلام والمحبة»، وهو ما أكسب هذه الزيارة بعداً روحانياً واضحاً، خاصة بعد لقائه كلاً من «فضيلة الإمام الأكبر» أحمد الطيب النجار شيخ الأزهر الشريف و«قداسة البابا تواضروس الثانى» بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وهو اللقاء الذى يعد تتويجاً لروح الحب والتعاون بين جميع الأديان ويعكس أيضاً التقارب الدينى بين الكنيستين، «الأوروبية الكاثوليكية والقبطية الأرثوذكسية»، للوصول إلى الهدف الأسمى وهو «وحدة الكنائس»، الأمر الذى يتناقض تماماً مع «دين أبو» هؤلاء الإرهابيين الذين يرون أن القتل وإسالة دماء الأبرياء -وبخاصة إخوة يشاركوننا الوطن- هو واجب مقدس يستهدف مرتكبه «الخلود فى الجنة»..!! إضافة إلى أن «زيارة بابا السلام إلى وطن السلام مصر»، تعد بمثابة حج مقدس، كما قال هو بنفسه: «إنه جاء إلى مصر مقتفياً خطى العائلة المقدسة، والعديد من الأنبياء».
على المستوى السياسى فإن وجود «رجل السلام فى أرض السلام» يمثل رغبة صادقة فى محاربة الفكر المتطرف، خاصة أن قداسته جاء بعد أحداث إرهابية استشهد على أثرها «مصلون مسالمون» ليجهض بهذه الزيارة محاولات «لقطاء» الجماعة الإرهابية لتشويه سمعة مصر، وليؤكد أن مصر بلد السلام والأمن والأمان من آلاف السنين، برغم محاولات المتآمرين وقوى الشر عليها، خاصة عندما قال: «كيف أخاف فى وطن احتمى فيه السيد المسيح وشعر فيه بالأمن والأمان».. «كم أنت عظيم قداستك» وهو التعبير الذى اختاره الصديق الكاتب الصحفى عثمان فكرى فى مقاله تعليقاً على الزيارة.. وربما كان اختيار «قداسة البابا» لتعبير «السلام عليكم» -فى بداية كلمته خلال مشاركته فى لقاء السلام بمركز مؤتمرات جامعة الأزهر، يوم وصوله الجمعة وفى «القداس الإلهى» باستاد الدفاع الجوى فى اليوم التالى «السبت»- انعكاساً لقناعاته بأن الأرض التى يقف عليها هى «أرض السلام بالفعل».
26 ساعة فقط أكدت أهمية الدور الذى تقوم به مصر لنبذ الحروب وحفظ الاستقرار فى منطقة الشرق الأوسط وبالتالى إحلال السلام فى العالم أجمع واعتماد «الحوار الدينى» طريقاً لتحقيق التعارف والحب بين شعوب الأرض بمختلف أيديولوجياتها، ومعتقداتها، وهو ما ترجمه اللقاء الذى جمعه مع فضيلة شيخ الأزهر و«قداسة البابا تواضروس»، الذى جسّد بحق رغبة دينية صادقة لتحقيق السلام فى كل أركان الأرض ليحل محل الإرهاب والدمار.
على الجانب الاقتصادى فإن الزيارة بداية لانفتاح سياحى غير محدود إذا ما أحسنت وزارة السياحة وهيئة تنشيطها استثمار هذه المناسبة التى لم ولن تستطيع أى منهما تحقيقها حتى ولو أنفقتا ملايين الدولارات لتسويق المنتج السياحى المصرى وبخاصة السياحة الدينية.. وجاءت صورة قداسته وهو يرقب من شرفة سفارة الفاتيكان -التى اتخذها مقراً لإقامته- شريان الحياة فى مصر «نهر النيل» لتصلح منشوراً عالمياً للسياحة فى مصر لن تصل إلى قيمته أى حملات دعائية، وهو ما يدفع الجهات إلى عدم إهدار هذه الفرصة كما جرى مع مناسبتين دوليتين سبقتاها: إحداهما فى شهر أبريل «زيارة ليونيل ميسى ساحر الكرة العالمية» بسبب تجاوز أحد الأشخاص كل الحدود معه وربما كان «غروره» بأنه رجل دولة قد هيأ له «تفوقه» على نجم الكرة الدولى ولم يشفع له اعتذاره عن هذا التجاوز.. أما المناسبة الثانية التى أهدرتها البيروقراطية «العنكبوتية» فهى «زيارة نجم السينما الأمريكية العالمى ويل سميث» فى الشهر التالى مارس الماضى..!
26 ساعة فقط حملت رسالة واضحة للعالم، إذ عندما أشعل البابا فرانسيس شمعة على أرواح شهداء الكنائس المصرية الثلاث فإنه فى ذات اللحظة أحرق جميع المخططات الطائفية التى تحاك ضد مصر وأشعل النيران فى ظاهرة الإرهاب الأسود الذى لا دين ولا وطن له، وأصبح يمثل تهديداً خطيراً لأى دولة فى العالم.
26 ساعة حملت رسالة طمأنة واضحة للعالم -من خلال إصرار «البابا» على أن يجوب الاستاد فى سيارة مكشوفة وأن يداعب الأطفال ويباركهم- بأن «مصر أم الدنيا» دولة آمنة، وأن المصريين يعيشون فى تعايش وأمان وحب وإخاء، وأن مصر بخير وهى موطن جميع الأديان السماوية التى ترفض نزعات العنف والتطرف والتى حملت راية الحب والحضارة الإنسانية طوال تاريخها ولم تعرف الكراهية، بل بالعكس تماماً إذ إن رسالتها للإنسانية هى نشر السلام ومنحه الأولوية من أجل التعايش، ومواجهة الإرهاب والتطرّف بالمحبة والرحمة والأخلاق الحسنة، وإعلاء السلام، بدلاً من النفور والصراع بعد أن جمعت مائدة الحوار أربع قيادات دينية متنوعة تمثل المسلمين «سنة وشيعة» والمسيحيين «أرثوذكس وكاثوليك».
بقيت تحية واجبة لمؤسسة رئاسة الجمهورية والقوات المسلحة ورجال الأمن على دورهم المهم فى إنجاح «زيارة السلام».. ولك يا مصر دائماً السلام.