بدلاً من أن تكون الجلسة المخصصة للحديث عن الصحافة الورقية ومستقبلها طاقة نور وبؤرة أمل فى أن تبقى حية ترزق، رغم تعثر وجودها وتعسر استمرارها وتعصر تمويلها، تحولت إلى ما يشبه دورة تدريبية للعناية بالمرضى المحكوم عليهم بالموت، إن لم يكن غداً فبعد غد. منتدى الإعلام العربى السنوى المنعقد فى مدينة دبى قبل أيام -الذى بات قبلة العاملين والمهمومين والحالمين بالإعلام العربى على مدى ما يزيد على عقد ونصف من الزمن- خصص جلسة عنوانها «هل فى الإمكان إنقاذ الصحافة الورقية؟» حضرها عدد غير قليل ممن بدت على ملامحهم آثار العمل الورقى، ووضحت على معالمهم أمارات الهم الكتابى. لم تظهر فى الحضور الفتيات الجميلات الطامحات للعمل فى مجال التقديم التليفزيونى، كما لم يحضر أباطرة الفضائيات وطواويسها الذين يجذبون الكاميرات ويؤججون القيل والقال أينما ذهبوا.
وعلى عكس بقية الجلسات، التى اضطر المنظمون إلى إغلاق القاعات أمام المزيد من الحضور بعد امتلائها عن آخرها، أو تكبد الجمهور عناء الوقوف فى هذا الجانب أو تلك الزاوية، ليسمع ويرى ما يقال عن صناعة الإعلام العربى وآمالها وآلامها، كانت القاعة مبحبحة على من فيها وإن كان من فيها غرقوا فى وجومهم واستسلموا لمخاوفهم بعد دقائق من الحديث بالغ الثراء والرؤية المفرطة فى الابتكار، والزاوية الغارقة فى مجال الإنقاذ.
المصمم العالمى للصحف الورقية دوجلاس أوكاساكى لم يعد الحضور المتجهم بمستقبل وردى أو معجزة من السماء، أو حتى بعض من مجد فات للجريدة المكتوبة والملموسة، بل قدم تصوراً عن القلق وثبت المخاوف، «فإما التجديد والابتكار أو الموت والاندثار». عرض المصمم تجارب عديدة أغلبها فى دول أوروبا الغربية لصحف ومجلات تمكنت من البقاء على قيد الحياة، بل وتغيير قاعدة متابعيها من الكبار المتسمين بالملل والباحثين عن أخبار تقليدية تكون قد قُتِلت بحثاً آلاف المرات على متن الفضائيات وملايين المرات على أثير العنكبوت إلى الصغار «الروشين»، «الكوول». وعرض المصمم العالمى نماذج عدة لهذه المطبوعات الورقية التى نجت حيث تصميمات شديدة الابتكار وتقنيات غارقة فى الإبداع. فمن الأرقام البيانية «إنفوجرافيكس» إلى السرد القصصى المقتضب إلى «أفضل عشر سبل» و«أذكى عشر وسائل» و«أمهر عشر طرق» إلى استخدام بالغ الحداثة للألوان وتصميم الصفحات جال «أوكاساكى» بالحاضرين فى المطبوعات الناجية، وهى جولات أبهرت لكن لم تطمئن القلوب الوجلة، وأسرَت المدارك وأثرَت فى المعارف، لكن لم تلق بظلال إيجابية على الحاضرين والحاضرات الذين بدت ملامحهم أقرب ما تكون إلى الديناصورات المنتهية. وأبى «أوكاساكى» أن ينتهى من شرحه الوافى وتلخيصه البالغ لمستقبل الصحافة الورقية قبل أن يزيد طين الإحباط بلة، التأكيد أن المطبوعات اليومية الناجية تحولت كذلك إلى أسبوعية «حيث لا التكلفة ولا المقدرة تتيحان أن يقوم فريق فنى بصفة يومية بهذا الكم من الإبداع والتصميم والتكتيك». وعلى الرغم من النعوت الجميلة التى صبغها على القاعدة الجديدة من قراء هذه النوعية من المطبوعات فى دول أوروبية عدة، أبرزها بلجيكا وهولندا وانضمت إليهما مؤخراً بولندا فى تجربة فريدة، هم من الشباب الـ«كوول» الذى يجد فى قراءة وحمل مطبوعة كتلك شكلاً من أشكال الروشنة، لا سيما أن محتواها من التصميمات عالية التقنية يتناسب هذه الفئة العمرية، إلا أن المصمم العالمى بالكاد ذكر شيئاً عن المحتوى الذى أفنى فيه «المستورقون» أمثالى أعمارهم. وبدلاً من عقود أمضيناها فى تحسين طريقة الكتابة، وتطوير أشكال الخبر، وتنويع مصادر المعلومات، إلى آخر قائمة الجهود المضنية التى تنضح بها مؤسسات صحفية عريقة وأخرى حديثة نسبياً، ركز «أوكاساكى» على الصحافة «الطيارى»، صحيح أنه لم يقصد بـ«الطيارى» الضحلة أو الكاذبة أو المراوغة، لكنه قصد بها السريعة جداً التى تراعى أن القارئ لا يملك رفاهية الوقت ليتوقف عندها كثيراً. فحروف «تويتر» الـ140 كافية جداً للمعلومة. وتغيير طريقة السرد من فقرات مكتنزة إلى نقاط رشيقة خفيفة لطيفة سهلة الهضم هو المطلوب. بالطبع المستورقون الجالسون أمام أوتكو كانوا على يقين بأن قطار التحديث والمواكبة فاتهم قبل سنوات. والسنة فى التقويم العنكبوتى تساوى عشرات السنوات فى التقويم الورقى. مال أحدهم على زميل له وقال له بسخرية موجعة «أتتذكر وقت أدخلت إدارة الجريدة أجهزة الكمبيوتر العملاقة إلى مكاتبنا ورفضنا التعامل معها وتمسكنا بأوراقنا وأقلامنا وكأنهم سينتزعون أبناءنا منا؟ وقتها اضطررنا للتعامل معها». فرد عليه زميله: «نعم أتذكر، كما أتذكر رفضك الشديد لـ(فيسبوك وتويتر) وتوترك وعصبيتك حين قرر أولادك أن يبدلوا لك هاتفك الأثرى المحمول بهاتف ذكى يعتمد على اللمس». ضحك الاثنان ضحكاً لكنه كالبكاء. فكلاهما جلس يستمع لمستقبل الصحافة الورقية -الذى هو رهن الشبكة العنكبوتية والقاعدة العمرية التى طالما اعتبراها لا تعنيهما فى شىء (الشباب)- وكلاهما ممسك بقلم وورقة يدون عليها أبرز ما يقال فى الجلسة لكتابتها فى موضوع وإرساله إلى الجريدة ليتم طبعها وطرحها فى السوق صباح اليوم التالى. وانتهت الجلسة، وبينما كان الصحفيان المستورقان ينقبان فى أغوار الشبكة العنكبوتية بحثاً عن مادة إضافية ليلحقاها بالتغطية الإخبارية الخاصة بجلسة مستقبل الصحافة الورقية، فوجئا بعشرات الأخبار والموضوعات ومئات التغريدات التى تمت كتابتها على الهواتف الذكية والكمبيوتر الشخصى من قبل الحضور وبثها، بينما المصمم العالمى يتحدث.
فى منتديات الأعوام الماضية تحدثت دينامو المنتدى والمدير العام للمكتب الإعلامى لحكومة دبى ورئيسة نادى دبى للصحافة السيدة منى المرى، غير مرة كثيراً عن القدرة المتزايدة للوصول إلى الأخبار السريعة عبر الشبكة العنكبوتية، وأن على العاملين فى الصحافة الورقية أن يكونوا مستعدين لهذا التغيير، فهل استعدت الصحف المصرية والعربية، ليس لما هو مقبل، بل لما هو جارٍ؟!