جاءت زيارة بابا الفاتيكان إلى مصر بانطباعات مختلفة محلياً ودولياً، إلا أن الشعب المصرى بمجمله، تفاعل بصدق ومحبة، مع زيارة الضيف الكريم. عندما يلتقى قطبا الديانة الإسلامية والمسيحية فى العالم، فإن الأمر مهم، وعندما تأتى الزيارة فى توقيت حسّاس تكون أكثر أهمية.
ما زلت أتذكر صورة معينة قد نُشرت لحضرتيهما أثناء زيارة الشيخ أحمد الطيب إلى الفاتيكان العام الماضى، كانت الصورة لتبادل نظرات بينهما تكاد تنطق بالكثير، صورة عبقرية توجز كل الخطابات، وتُفصح عما تكتمه الاجتماعات. هذا العام استبدل ذهنى الصورة المتحسّبة والمتحفّزة السابقة بالصورة الحديثة (وما سجّلته من عناق ودى ومؤازر ضد الإرهاب)، حيث جاءت بسمة بابا الفاتيكان وتلويحه إلى الشعب والحضور المصرى اللقطة الأبهى فى هذا الحدث، بالتأكيد هو دعم معنوى مقصود ورسالة مهمة اتضحت أكثر من خلال خطبة سيادته.
خطبة لطيفة ومجاملة ومثنية على دور مصر التاريخى، ومذكرة بقدسية أراضيها، التى شهدت كلام الله تعالى لموسى عليه السلام، واستضافتها للعائلة المقدسة، وكيف أنها بلد الحضارة والعلوم التى كان لها أثرها على العالم. لكنه فى سياق التعاطف مع تحديات هذا الشعب، جلس يُعدد الحوادث التى وقعت ضد الأقباط بدقة شديدة، وكأنه يقول ضمنياً (نحن نرصد ما يتعرّض إليه مسيحيو مصر!!!) فقراءة ما بين السطور مهمة. ثم أعاد الثناء على مصر، وشدّد على أنّه يتوقع توقعات كبرى من مصر، لأن التوقعات الكبرى تأتى من الدول الكبرى، وهى رسالة أخرى، بأن يكون التصرّف على قدر كبير وحاسم.
كرّر وعضّد وأعاد فكرة أن مسيحيى مصر -بجميع طوائفهم- جزء أصيل من تاريخ هذا البلد ومن نسيجه، معطياً إشارات وتلميحات وتصريحات واضحة بأن الإيمان لا يعرف الشر أو القتل، وأن القتل لا يمكن أن يتم باسم الله، ثم حمل رسالة وصلوات سلام إلى جميع البشر الطيبين، وأكد كذلك أن قوة القانون هى التى يجب أن تسود، وليس قانون القوة، كرسالة مباشرة.
جاءت كلمات شيخنا الجليل (أحمد الطيب)، وبها رد أو دفاع واضح عن تهمة (إلصاق الإرهاب بالإسلام) وأعطانا لمحات مهمة بأن التطرّف ذاته الذى مُورس من قِبل الغرب والعالم أجمع، هو ذاته ما يمارَس من قِبَل متطرّفى المسلمين اليوم، وذاته ما تبنته أمريكا وأوروبا فى حروب سابقة أبادوا بها الكثير من الأبرياء، ولم يكن هناك أى دخل للمسلمين بتلك الحروب. ثم ذكر فضيلته أن الديانات بريئة من ضلال بعض أبنائها والمؤمنين بها (مع تحفّظى الكامل على كلمة «المؤمنين»!!! فكيف يكون المؤمن إرهابياً قاتلاً تكفيرياً؟!).
ثم أرجع فضيلته، سبب العنف والدمار إلى تجارة السلاح، التى شرّدت الشعوب وأبادتهم وحوّلتهم إلى لاجئين ومشردين وقتلى، فى إشارة إلى رد الإرهاب إلى مموليه، وأنه فى الأساس لعبة سياسية لا شأن لها بالدّين، لكن فضيلته ذكر أيضاً أن سبب الإرهاب هو تفسيرات مغلوطة للدين وفهم خاطئ لنصوصه، وهنا دور الأزهر سيادتك، بتصحيح تلك المفاهيم وشرحها وإزالة ما علق بها من مغالطات وضلال.
كما أوعز فضيلته أيضاً سبب هذا الإرهاب إلى نزعات الإلحاد والبُعد عن الدين. وهنا وقفة، فرغم قبح الإلحاد وبشاعته، فإننا لم نسمع يوماً عن ملحد فجر أو نحر أو أباد أحداً، بل هو شأن المتطرفين، بل إن التطرّف هو السبب الرئيسى فى إلحاد بعض البشر!! فضيلتك لا مناص من إزالة الشوائب والتفسيرات المغلوطة والآراء الهدّامة التى لا علاقة لها بالدّين القويم، لمحاربة الإرهاب والعنف والاختراق الغربى باسم حماية الأقليات.
حوار الأديان مهم، والأهم منه الاتفاق والاقتناع بحق الآخر فى الاختلاف والوجود بسلام وأمان، دون ضرر أو ضرار (هكذا جاء فى نصوص ديننا الحنيف). إن أجمل ما فى الإسلام هو تصديقه وإيمانه وإيجازه وتلخيصه لجميع الديانات التى سبقته، واعترافه بها وبأتباعها. إن أجمل ما بالإسلام وسطيته واعتداله، وتيسيره حياة البشر. الإسلام الحق فى كتاب الله وليس على ألسنة المتطرفين المغالطين والمزورين لمعانى كتاب الله. إن الله طيب لا تصدر منه إلا الأوامر الطيبة، حاشاه سبحانه أن يكون دينه يدعو إلى القتل والذبح والإرهاب، ومرحباً دوماً بحوار قادة الفكر الدينى بالعالم، وتخليهم عن العصبيات والاختلاف واجتماعهم على محبة الله وطاعته، كلٌّ بطريقته.