(وهام بى الأسى والبؤس حتى/ كأنى «عبلة» والبؤس عنترة).. صاحب هذا البيت هو الشاعر الموهوب عبدالحميد الديب (1898- 1934)، الذى ظهر وسط جيل العباقرة الكبار من الأدباء والشعراء أمثال «شوقى» و«حافظ» و«العقاد» و«طه حسين» و«المازنى».. لكنه كان شاعراً فريداً وظاهرة لم تتكرر وقد ألف عنه كتاباً الأديب الناقد «محمد رضوان» بعنوان «فيلسوف الصعاليك»، استعرض فيه حياته الغريبة المثيرة التى تعكس مأساة بؤسه ومحنة حرمانه وتشرده فى الشوارع وهيامه للبحث عن لقمة خبز تقيم أوده وليالى ضياعه وحوادثه المثيرة فى السجن ومستشفى الأمراض العقلية والحانات الرخيصة فكانت حياته فى شعره سلسلة من الاعترافات النابضة بالحرارة والصدق بما اتسم به شعره من دموع وأحزان وأسى وعزفت لنا تلك القيثارة الحزينة أرقّ أنغام الأسى والحرمان وأشجاها فى شعرنا المعاصر.. يقول «محمد رضوان»: لقد حرصت على تناول سيرة هذا الشاعر المحروم وشعره لأنه لم يأخذ مكانه الحق فى سجل شعرنا المعاصر ولإغفال الدارسين لشعره الفريد الرائع.. ولعل شاعرنا البائس كان لديه إحساس قوى بإهماله فى حياته وبعد مماته حين قال: (لقد جهلوا يومى ولن يكرموا غدى/ ويا حر قلبى من شقائى فى أمسى)..
كان «الديب» متمرداً على المجتمع والقيم والأعراف والتقاليد والحياة.
ويفسر «رضوان» ذلك بأنه كان رد فعل لمحنة نكاية خصومه به وإهمال معارفه له.. وعدم تقديم يد العون لانتشاله من بؤسه، وتغاضى السلطة عن حرمانه وهوانه.
وفى مواجهة مظاهر الثراء الفاحش والظلم الاجتماعى الحاد فى تلك الحقبة من الثلاثينات لم يجد الديب سلاحاً يواجه به ظلم المجتمع له سوى التمرد العنيف ضد كل من يحاربه ويمنع عنه الخير فأطلق سهام حقده وسخطه وغضبه فى صورة قصائد نارية ملتهبة تحطم كل شىء وتدمر الوجود نفسه.
«ويا ليت السما تهوى علينا/ ويا ليت النجوم الصاعقات».
ويقول أيضاً: «أمر على المقهى فأسمع شامتاً/ يمزق فى عرضى.. وآخر يشفع/ وقد ساء ظنى بالعباد جميعهم/فأجمعت أمرى فى العداء وأجمعوا».
كان «الديب»، إذن، صعلوكاً فقيراً بلا عمل وبلا مأوى ينام على أرصفة الشوارع وفى المساجد والحدائق العامة ويرتدى ملابس رثة ويهجو فى شعره العنيف -الذى كثيراً ما كان بذيئاً- كل من يقابله فيقول مثلاً فى بعض رجال الأدب والصحافة من معاصريه: (يا رجال الشعر والفن الرصين/ لعن الله أباكم أجمعين).
ويروى الشاعر الكبير «صالح جودت» بعض وقائع التفكه بين «الديب» و«كامل الشناوى»، فيقول: كان كامل الشناوى فى مطلع حياته الأدبية عام (1932) يقيم فى بيت ذويه بأحد منعطفات شارع بالسيدة زينب.. وكان يؤوى «الديب» عنده أياماً طويلة ويقتسم معه طعامه.. ولكنه لا يفتأ يتندر على الديب ويتفكه به طول مقامه عنده وكان «الديب» يضيق أحياناً بفكاهات «كامل» فيثور ويترك البيت ويحتمل حياة الجوع والعراء إلى أن يصالحه كامل فيعود.
ومن تندره عليه أنه كان يخرج من جيبه عشرة قروش ويقربها «للديب» مشيراً إلى العملة مردداً:
- حضرتها عشرة صاغ. ثم يلتفت إلى الورقة مشيراً إلى «الديب» ويقول لها:
- حضرته الشاعر الكبير «عبدالحميد الديب».
(ويقصد أن أحداً منهما لم ير الآخر أبداً).
ثم يفعل مثل ذلك بقطعة من الصابون.. أى أن «الديب» لم يرَ الصابون ولم يستحم فى حياته..
لكن «الديب» يهجوه ويسخر منه فى هجاء لاذع قائلاً:
(يصول على دجاج عبقرى/ يكاد ببطنه الكبرى يلالى/ وبين يديه واحدة من العذارى/ ترى يدها بكأس أو بمال/ تغمغم إذا يقبلها استياءً/ لأن الفيل يعبث بالغزال).
وقد سقط «الديب» ضحية إدمان (الكوكايين) الذى دمر أعصابه وأهلك صحته النفسية والعقلية بل أهلك كيانه كله فانتهى به إدمانه إلى السجن.. ثم إلى مستشفى الأمراض العقلية.. وتوفى فى قصر العينى إثر انفجار فى الشرايين.. ويؤكد الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش أنه لولا الإدمان لكان «للديب» شأن كبير فى تاريخنا الأدبى المعاصر، ولأصبح واحداً من أكبر شعراء العرب فى القرن العشرين.. وقد عبر هو نفسه شعراً عن تعاسته بسبب الإدمان مردداً:
(أليس بياض الكوكايين مبشراً/ بأسود نعيش فى غياهبه أقضى؟!).
والكوكايين هو المادة الفعالة من نبات «الكوكا» الذى ينمو فى أمريكا الجنوبية.. وهو مسحوق أبيض ناعم يستنشقه المتعاطى.. والمصاب بإدمان الكوكايين يشعر بتحرك شىء تحت جلده مثل الحشرة، كما يشعر بحكة فى الأطراف، وقد يصاب بثقب فى الحاجز الأنفى نتيجة الشم المتواصل.. ويؤدى التعاطى المستمر إلى الهذيان والضلالات الوهمية الزائفة والتدهور النفسى والعقلى والسلوك العدوانى تجاه الآخرين وهو ما يفسر لنا الصدام الحاد والهجوم الضارى الذى كان يشنه «الديب» بسبب أو دون سبب ضد الناس والمجتمع.
والمدهش فى حالة «الديب» أن ضعف إرادته فى مواجهة بؤسه وعدم قدرته على تجاوز ظروفه المعيشية البائسة والتى أسلمته للإدمان ما لبثت أن حولته إلى شخصية (مازوكية).. و(المازوكى) هو من يستعذب الألم وإيذاء النفس.. بل يسعى إليهما.. فقد استسلم «الديب» إلى استمراء الناس وترحيبهم بقصائده التى يتحدث فيها عن البؤس والشقاء وظلم الأقدار وغدر الأيام وبشاعة الحاضر وظلام المستقبل، وإحساسه بالغبن والاضطهاد وسوء ظنه بالناس وهجائه لهم بل ازدرائه لنفسه وتشبيهه لها بـ«كأنى حائط كتبوا عليه/ هنا يا أيها المزنوق طرطر».
وهو بذلك يصنف كشخصية سيكوباتية تخاصم المجتمع وتتخذ سلوكاً عدوانياً تجاه الآخرين.
لقد وصل الشاعر -كما يرى رجاء النقاش- إلى حالة من الرضا الخفى بمصيره البائس فقد أصبح مشهوراً بين المشتغلين بالأدب والصحافة فى عصره بهذه الشخصية الخاصة التى تعيش فى بؤس وتشرد.. وتجد فى ذلك مصدراً للإلهام الشعرى حيث كان الكثيرون يستمعون إلى قصائده ويتخاطفونها وينتظرون منه أن يكتب فى هذا الموضوع الواحد والأساسى.. وهو البؤس والشكوى من الناس والحياة؛ ولهذا أصبح «الديب» يمثل دوراً نجح فيه كل النجاح وأصبح الناس لا يتصورونه فى غير هذا الدور الناجح المحدد.. والذين كانوا يساعدونه ببعض المال آثروا أن تكون مساعدتهم قليلة ومحسوبة حتى لو كانوا قادرين على أكثر من هذا بكثير وكان السبب هو أن يبقى الشاعر فى دوره المرسوم له وهو دور البائس الضائع التعس.. فتلك هى الصورة التى يرضاها الناس ويستمتعون بها.. وذلك هو الدور الذى استسلم له الشاعر وأتقنه حتى أصبح علامة عليه، ومصدراً لتفرده بين شعراء عصره وأدبائه.