لا أشقى ولا أمرّ من أن تتجهّز بفيض من الكلمات لحوار ينساب وأفكار تتدحرج من رأسك، وتأخذك الأوهام أنّ مستقرها فى قلب المتلقى وعقله، وأن من تبادله أطراف الحديث يعى ما تقول، ثم تفاجأ أنه لا يلقى لك بالاً، ولا السمع يلقى بوحك ولا البصر ولا الفؤاد، فأىّ القواميس تسعفك بما ينذره بأهميّة ما يحويه مرسالك؟ وكيف عساك توقف سيل رسائله العرم وتقول له «أرجوك، توقف عن الإرسال وامنح رسائلى قدراً من الاهتمام»، «لا ترسل إلىّ رسائل الود والقرب وطيب الدعاء فى جملة مَن تراسلهم ثمّ تغفل رونق العلاقة وخصوصيتها»، لكنك تدور فى دوّامة مغلقة، لا رجاء فى الخروج منها ولا بارقة أمل.
لو علمت كلاماً أشدّ وطأة على النّفس لقلته، إلا أن الكلمات تعجز، ويبقى سوء التواصل حاضراً وتبقى القضيّة فى تنامٍ، إن لم ندركها فتلك مصيبة، فبعد أن تربّعت وسائل التواصل على عرش علاقاتنا الاجتماعية، فقدنا لذة القرب ودفء المصافحة ولقاء الأفئدة والعقول، وأصبح من يرى مجده ويذيع صيته على المنصات الرقميّة بـ«لايكات» و«تعليقات» أكثرنا علماً ومكانة حتى غدونا نتخبّط فى مشهد عبثى، أضع هنا بعضاً من صوره المتجسدة فى إحدى منصات التواصل، ألا وهى الواتساب:
1- يسرّك تلقى رسالة الصباح من قريب أو صديق أو زميل، إلا أن تدفّق العشرات منها بلا هوادة يدهشك، فلا تكاد تصله آية أو ورد أو قول مأثور، أو خبر مكذوب وشائعة مدوّية، حتى يسارع فى إعادة إرسالها إليك، وإن غاب المشهد فى غمرة الانشغالات فإنّه يتكرّر بقوّة فى المساء، فلا تسعك إلا ابتسامة حائرة وحسرة حاضرة..!
2- تعجب كلّ العجب ممن يمضى ساعات فى تلقى الرسائل المنهمرة ليعيد إرسالها، ولا يجد متّسعاً من الوقت للردّ على رسائلك المهمة أو متابعة أعمال عالقة بينكما بإيجابية ومهنية، خاصة حين يتعلق الأمر بموضوع سبق مناقشته معه فى اجتماع أو مكالمة وتم الاتفاق على تنفيذه بجدية؛ ويأتيك الرد على هيئة سيل متجدّد من الرسائل الجميلة والعبارات المبهرة والنفحات الإنسانية تلقّاها من الآخرين وأعاد إرسالها إليك!! وهكذا دواليك، حتى تضيع الموضوعات والأعمال المهمة فى زحام الرسائل الصباحية والتحايا المسائية، وتفقد الأمل من تلقى الردّ مهما طال بك الانتظار.
3- تلتمس لهؤلاء العذر وتقول لا بدّ أنّ رسالتك تاهت فى غياهب ما يصلهم من رسائل، لا بأس بتذكير أحدهم بأرقّ ما تملك من عبارات مثل «سأكون شاكراً تفضلكم بالرد على الرسالة أعلاه أو أدناه»، بل لا ضير من إرسال الرسالة مرة ثانية وثالثة أحياناً، ليصلك دفق جديد من الأدعية والحكم المأثورة والفيديوهات، أو يكون نصيبك التجاهل برغم قراءة الطرف الآخر لرسالتك الأولى والتذكيرات المتتالية مع مرور أيام عدة؛ آنذاك يصيبك «دوار إلكترونى» لتعمد تجاهل رسائلك بشكل مريب وغريب وعجيب!! والأدهى والأمَر حين يتذكرك ويعاود التواصل معك بلا اعتذار عما سبق، وكأنه يستدعيك مرة أخرى من قائمة الأموات فى فضائه الإلكترونى ليهبك ميلاداً جديداً ويتعرف عليك من جديد وفق ما طرأ له من حاجة أو منفعة حسب وقته وأولوياته!
أيها السادة الحاضرون الغائبون فى الواتساب.. رسائلكم باتت تتخطّاها الأنامل وتقف على مدخل القلوب ولا تتعداها، لأنها ليست كلماتكم ولا فيض مشاعركم، ولَكلمة صادقة تبوح بها أفئدتكم وردّ إيجابى واحترام مهنى، أحبّ إلى النفس من شلال رسائلكم المنهمر. هذا لسان حال من يعانون من تفشٍ خطير لمرض «الحضور الغيابى فى التواصل الاجتماعى»؛ فحوار الطرشان والإبداع فى التجاهل وعدم الاهتمام يحيل عباراتكم البراقة إلى طاقة سلبية وانعزالية ونذير يهدد استدامة العلاقات الإنسانية، ألا هل بلّغت، اللهم فاشهد.