لو هناك ما زال متسع مساحة للنبل، فهاك قصة «نبيل صابر فوزى» المواطن المسيحى الذى خرج مع العشرات من مدينة العريش، خوفاً من رصاصات الإرهاب التى نفّذت بحقهم 7 عمليات اغتيال منذ «شهور» خلال أسبوع واحد، بغرض ترهيبهم وإثارة فزع إنسانى متوقع ومفهوم، وهو ما نجحوا فيه، لتنتقل العائلات بشكل مؤقت إلى محافظات القناة لحين عودتهم المنتظرة، نبيل وأسرته كهؤلاء أقام فى مدينة بورسعيد، لتمر عليه «شهور» خفتت فيها أضواء الكاميرات بأسرع من انحسار زيارات وأصوات المسئولين والزائرين. الحقيقة لم يكن هناك كلام يقال، فثمة جملة واحدة تبدأ عند: هل يعودون، ومتى؟ وستظل واقفة عند تخوم أراض وحلوق لم تمتلك الإجابات بعد.
نبيل فوزى (40 عاماً) لا يفهم مثل هذا الحديث، ولم يقف طويلاً عند حيرة كتلك المعبأة بالذرائع، لديه زوجة وأطفال معلقون فى عنقه، استقامته دفعته للاستجابة لأولى إشارات تململهم من المقبل، فحزم أمره للعودة إلى العريش، مدينته، كى يستعيد مباشرة «أكل عيشه»، فهو لا يعلم غيره طريقاً لإعالة أسرته. عاد وحده كمواطن مكتمل الرجولة، ليعمل بيديه غير آبه بمخاطر المعيشة فى شوارع مدينته، معادلة الشرف والشجاعة حدّثته بأن جهده وحده هو القادر على تمهيد الأرض لعودة أسرته، فكما هو واضح تماماً لا شأن له بالسطور وما بينها ولا بالتلعثم ومتقنيه. مرفوع القامة، مستقيم العود والمقصد رجع مدينته ليستأنف عمله، قبل أن ترصده عيون الغدر القبيحة لتسلم قصته إلى مساحات فضاء ممتدة من النبل، سهّلت عمل رصاص الاغتيال فى التقاء صدره، فهو الواقف وحيداً فى هذا الفضاء يحمل اسمه الغريب «نبيل صابر».
على الجانب المقابل من هذا الفضاء، فى ذات التوقيت تقريباً، كان هناك ترويج مقلق ومريب لما أُطلق عليه «القبائل فى مواجهة الإرهاب»، فقد كان المشهد يتكون على خلفية صراع نفوذ وأموال ما بين «قبيلة الترابين» وبين تنظيم «أنصار بيت المقدس» يعلم الجميع فى سيناء محطاته التى أدت إلى هذا الاحتدام بينهما، منذ عامين تقريباً وقع أول اشتباك مسلح بينهما فى سوق «قرية البرث»، وهى إحدى قرى جنوب رفح، التنظيم قتل حينها أحد أبناء القبيلة، وردت القبيلة بقتل أحد المسلحين. وتوقف العمل بالسوق لفترة حتى تم الصلح بين الطرفين، بالاتفاق المتبادل على السماح بإقامة السوق فى مقابل ضمان عبور آمن لعناصر ومصالح التنظيم الإرهابى. طوال عامين تأرجحت وتيرة أعمال الخطف والقتل المتبادل ما بين الطرفين، لتعلو وتخفت وفق منحنى تلاقى وتقاطع المصالح بينهما، فى تلك المساحة الاستراتيجية من الأرض.
مسار المحطات الذى أوصل لتلك الأخيرة لم يكن مستقيماً ما بين «الترابين» والتنظيم المسلح، إنما شكلت بعض تعرجاته تفسيراً لتلك الاستقامة المفقودة، ففى مايو 2015م فشلت بجدارة دعوة مماثلة فى «مؤتمر اتحاد قبائل سيناء»، روج بقوة حينئذ لدعوة تسليح أبناء القبائل لدعم الجيش فى مواجهة الإرهاب. سبب الفشل تمثل لجميع المشاركين فيه، فى أن الداعى للمؤتمر «الترابين»، أيضاً كان وراءه بحث عن مصالح ونفوذ تمارس على بقية مكونات المشهد السيناوى، وظهر حينها أن قبائل مثل «السواركة، الرميلات» غير راغبة فى إعطاء صك القيادة للترابين، فلديهما وغيرهما على أرض سيناء الكثير من تفاصيل تدعو إلى تفسير أن ما جاء بالمؤتمر لا يتماس مع الواقع فى شىء، سوى أن قوات الجيش بدأت تحطم قدرات التنظيم المسلح، لذلك تسعى أطراف بعينها لضمان حجز مقعد لها ولنفوذها فيما هو بعد الإرهاب.
المحطة الأخيرة بدأت اعتيادية تماماً فى 17 أبريل الماضى، عندما استهدف التنظيم الإرهابى شاحنة «سجائر» تعود ملكيتها لأحد أبناء قبيلة «الترابين»، كانت فى طريقها للتهريب إلى غزة. التداعى الروتينى للحادث ربما جاء خشناً قليلاً هذه المرة، فشهد قصفاً صاروخياً بـ«آر بى جى» لمقر قبلى للترابين، أعقبه إلقاء الأخيرة القبض على عناصر للتنظيم وقتلهم «حرقاً»، مما دعا التنظيم لاستهداف تجمع لسيارات وأبناء القبيلة بسيارة مفخخة، أوقعت فى صفوفها عدداً لم يفصح عنه من الضحايا. مباشرة بعد تلك المحطة من الأحداث، شهدت أروقة القبيلة حالة استنفار كبيرة لعناصرها، وهذا ربما يكون مفهوماً، وقد حدث قبلاً مراراً، على خلفية نزاعات مالية تخص عوائد التهريب والإتاوات التى تُفرض بعيداً عن الأعين. وتيرة الأحداث تشى بأن التضييق العسكرى والأمنى على الشريط الحدودى، ومعه بعض من الخجل الحمساوى تجاه الأجهزة المصرية، خلقا وضعاً أكثر ضيقاً فى العوائد وفى حرية الحركة التى كانت موجودة قبلاً، والضيق هنا مما يخلق تناحراً غير متوقع توقيت انفجاره كما حدث مؤخراً.
هذا عن المفهوم، لكن غير المفهوم ولا المبرر بالمطلق أن يصور هذا المشهد من البعض باعتباره «صحوة مفاجئة» لـ«القبائل» ضد الإرهاب المسلح، وانزلاق بعض المواقع الإخبارية للترويج لبيانات ومدونات لبعض الأشخاص، يدّعون قيامهم وقيادتهم لحملات مسلحة ضد الإرهاب. ففى الوقت الذى يعلم فيه الجميع فى سيناء أنه ليس فى الأمر ثمة «قبائل»، وأن الضجيج أساسه «ترابينى» وسيخفت قريباً وهو ما زال «ترابينى»، لذلك لا يحملون سوى ابتسامة استهانة مشوبة بالقلق، فى مقابل هذا الحماس غير المبرر الذى يدور هنا.
يظل تعقيد المشهد السيناوى وهشاشة توازناته، كلاهما لا يحتمل ولا يقبل سوى سلاح الدولة الرسمى بيد قواتها المسلحة، وأى تعلل بهذا التعقيد للمراهنة على أدوار لغيره، يدفع بالمشهد إلى مناطق أكثر إظلاماً مما تعانيه جنباته اليوم. الأدوار جاهزة لمن يريد مساعدة «الدولة» بحق فى العريش وشرقها، بعيداً عن دفعنا جميعاً و«سلطة الدولة» إلى خطر سداد فاتورة هذا العبث المهدد.