فى آخر تجليات تنظيم داعش الإرهابى تهديده للمصريين جميعاً بعدم الاقتراب من الكنائس وكل مؤسسات الدولة ومرافقها العامة ومواقع الجيش والشرطة والسفارات الأجنبية، لأنها فى عُرفه أهداف مشروعة لعملياته الإرهابية. والواضح من هذا التهديد أنه لا يضيف جديداً سوى الجرأة فى اعتبار كل شىء هدفاً محتملاً، وهو أمر أكبر بكثير من طاقة أى مجموعات إرهابية مهما تحصلت على أموال وأسلحة وتعليمات وتدريبات، ولو تصورنا أن المصريين أو بعضاً منهم أخذ مثل هذا التهديد مأخذاً جدياً وبحث عن مكان يخلو من أى من هذه الأهداف الواردة فى التهديد الأرعن فلن يجد سوى الصحراء الخالية من مظاهر الحياة، وهنا تتجلى بوضوح أزمة هذا التنظيم فكرياً وسلوكياً، إذ يعتبر المواطنين لا قيمة لهم سوى أن يكونوا خائفين مذعورين وقابلين دائماً للانصياع لسطوة التنظيم، وهو أمر ثبت أنه مجرد وهم لا حدود له من أناس يتحركون خارج قوانين العقل والمنطق، فلا الدولة فى أى مكان استسلمت، ولا المواطنون فى أكثر الدول والمجتمعات التى عانت من إرهاب داعش وأمثالها ارتكنوا للخوف والانصياع، بل كانت المقاومة والمجاهدة هى الرد ولو بعد حين.
وما يجرى الآن فى العراق، خاصة تحرير الموصل، وبالرغم من التحفظ الشديد على ممارسات الحشد الشعبى العراقى، فإن الدلالة الأهم أن داعش ليس له مستقبل كتنظيم يتحكم فى مساحة من الأرض يطبق فيها أحكامه اللا إنسانية، مهما أفرط فى العنف والقتل وسبى النساء واحتقار أصحاب الديانات الأخرى، وهو ما ينطبق أيضاً على حالة ليبيا لا سيما فى شرقها، وحالة سوريا بالرغم من وضعها الخاص جداً وكثرة ما فيها من تنظيمات مسلحة تتشكل من مرتزقة حروب وعنف، فإن داعش تظل له خصوصيته من حيث الإجماع على محاربته والتخلص من شروره.
مصر بدورها كدولة ومؤسسات رسمية وشعب ومجتمع مدنى لم تكن يوماً فى وارد الانصياع لمثل هذا التنظيم مهما فجر من مبان أو دور عبادة، أو قتل ضباطاً وجنوداً وأناساً عاديين، أو أطلق تهديدات افترض من ورائها أن تُحدِث هزة كبرى بإشاعة الخوف العام، وأن تُقرب له تحقيق أهدافه فى إقامة جيب جغرافى يعتبره أرضاً محررة ونواة لدولة موهومة، سواء فى سيناء أو فى بقعة أخرى فى مكان حدودى ناءٍ، فالدولة المركزية تُعد مكوناً رئيسياً فى التركيبة النفسية للمصريين جميعاً، وأياً كانت الانتقادات التى نوجهها لأداء الدولة وبيروقراطيتها ورموزها السياسية والبرلمانية والنخبوية، يظل التعلق بالدولة ككيان يصون البقاء العام أمراً محتوماً، وهو ما لا يدركه داعش والمنتسبون له من ذوى الفكر الضحل والمغرر بهم من الجهلاء وذوى النفوس الضعيفة والإيمان المفقود.
تهديدات داعش استقبلتها الأجهزة الأمنية بما يستحق من الاستنفار والاستعداد، وهذا هو واجبها، أما المصريون فلم يعيروا تلك التهديدات أدنى اهتمام تعبيراً عن احتقارهم للتنظيم وأفكاره وأوهامه، وربما أيضاً تعبيراً عن ثقة دفينة بأن القائمين على الدولة وحمايتها يعرفون كيف يتصرفون وكيف يقضون على هذا التنظيم وأمثاله من دعاة العنف والتخريب، تأسيساً على أن الوضع الأمنى العام تحسن كثيراً خلال العامين الأخيرين، وبما سمح باكتشاف الكثير جداً من بؤر العنف ومموليهم ومجموعات التكفير وخارجين على القانون ومهربى الأسلحة، ومن ثم إجهاض عدد كبير من العمليات الإرهابية التى كانت قريبة من التنفيذ.
النجاحات الأمنية فى مصر، فى سيناء وفى الدلتا والصعيد وفى المناطق الحدودية شرقاً وغرباً وجنوباً، تصاحبها إخفاقات وهزائم التنظيم فى أكثر من بلد مجاور أو قريب، يجعل تهديدات داعش بمثابة محاولة لإثبات الذات ليس فقط فى مصر بل فى عموم المنطقة، ومما يجدر ذكره هنا أنه قبل عام أو أكثر، كان مجرد تصريح أجوف لأحد منتسبى التنظيم يقيم الدنيا ولا يقعدها، وتتناولها وسائل الإعلام العالمية باعتباره حدثاً رئيسياً ينبغى التحسب له، وهو ما لم يحدث فى تهديدات داعش الأخيرة، وبما يعكس الإدراك العام بأن التنظيم فى أيامه الأخيرة، فضلاً عن معاملة كل موقف بما يستحقه دون تهويل ومبالغة، وما يجرى فى سيناء، حيث هبة القبائل ضد التكفيريين من داعش وغيرها بتنسيق مع القوات المسلحة والشرطة يرجح قرب نهاية التنظيم وأفراده وأوهامه إلى غير رجعة، وتطهير سيناء من شروره.
ومع ذلك فالتحسب لتحولات الجماعات الإرهابية من حيث الكمون الزمنى والتشتت التنظيمى، أو اللجوء إلى مواقع تبدو هادئة للاختباء والاستعداد لعمل إرهابى بعد حين لإثبات الوجود، أو ابتداع أساليب جديدة لجذب أفراد عاديين إلى أماكن عامة ثم قتلهم بخسة وغدر، يُعد من الحصافة بمكان. وفى آخر التحذيرات الأوروبية التى تم شرحها منتصف الأسبوع الحالى فى أحد المنتديات الأمنية الأوروبية أنه تم رصد دعوات من تنظيم داعش على شبكة الإنترنت لأتباعه بأن يستدرجوا أفراداً عاديين يتسوقون فى مواقع التجارة الإلكترونية الشهيرة إلى مواقع معينة واستخدامهم كرهائن ثم قتلهم، كما رصد أيضاً تعليمات لأتباع التنظيم لا سيما المنتشرين فى بلدان أوروبية بشراء أسلحة وبنادق من خلال الإنترنت لاستخدامها فى عمليات مستقبلية، وقد لاحظت مسودة استراتيجية إدارة ترامب لمكافحة الإرهاب أن التنظيمات الإرهابية يمكن القضاء عليها من خلال تعاون دولى أكبر فى مجالات أمنية وعسكرية وتنموية، ولكن العمليات الإرهابية نفسها قد تحدث بين الحين والآخر، أى لا يمكن القضاء الكامل على الإرهاب حسب استنتاجات الوثيقة الأمريكية فى صياغتها الأولية، استناداً إلى افتراض أن جماعات التطرف تتحد من حيث هدفها الأعلى وهو إقامة خلافة إسلامية عابرة للحدود مما يلهب الصراع على المستوى العالمى.
ما يهمنا فى مثل هذه الرؤى هو هذا الاتفاق على أن الظاهرة الإرهابية وتنظيماتها وبالرغم من الخسائر التى تتعرض لها وحالة الاستنفار الدولى ضدها، فإنها ستظل موجودة لفترة أخرى من الزمن وإن بشكل أضعف مما هى عليه الآن، فحدوث عملية إرهابية كبيرة أو متوسطة أمر وارد، ولكنه لا يعنى أن الإرهاب سينتصر، وأن الدول سوف تسقط تباعاً، فهذا وهم كبير، سوف يسقط ضحايا أبرياء ورجال أمن وجيش غيرهم فى المواجهات المحتملة، لكن المجتمع لن يفقد إيمانه ولو للحظة واحدة فى قدرته على دحر الإرهاب والإرهابيين. هكذا هى قناعات الشعوب الحية والمؤمنة بقدرة الحياة والأمل على الانتصار فى معركة البقاء والحرية، وأحسب أن المصريين أحد هذه الشعوب الحية.