وتظل أمثالنا الشعبية هى أصدق المصادر للتاريخ المصرى القديم وللعادات والتقاليد، والمتابع للتطور المجتمعى الذى نعيشه فى عالمنا قد يتعجب من أننا نعود فى القرن الواحد والعشرين لما كنا نفعله أيام الفراعنة والحكم الفاطمى وعهد المعز لدين الله، فبالرغم من التقدم المذهل فى جميع نواحى الحياة إلا أن هناك بعض التقاليد القديمة عادت إلينا ليمارسها المصريون كما كانت فى تلك العصور بالرغم من وجود بدائل حديثة لها.
حديثنا الْيَوْمَ عن الحمامات الشعبية التى دخلت مصر منذ أكثر من ألف عام عندما شيدت قاهرة المعز الفاطمية، وقد ظل الكثير منها محافظاً على هيئته القديمة وعتاقتها، بينما تغير البعض منها واستحدثوا له واجهات معاصرة لمواكبة الموضة، وأغلق البعض وانضم إلى سجل التوثيق الحضارى. وقد عرفت القاهرة الحمامات الشعبية قبل تسميتها بذلك الاسم (القاهرة)، إذ يرجع إنشاء الحمامات الأولى للعصر الرومانى قبل الفتح الإسلامى لمصر وهى الرواية الأقرب للمؤرخين.
وكان الخليفة الفاطمى العزيز بالله هو من بنى أول حمام بالفسطاط بعد دخول الإسلام. أما بعيداً عن مصر فيؤكدون أن إيطاليا عرفت تلك الحمامات الشعبية فى العصر الرومانى أو فى الولايات الرومانية فى القرن الثانى قبل الميلاد. وقد خصصت حمامات للأباطرة مثل نيرون ودقلديانوس وغيرهما، واتسمت بضخامتها، إذ صممت فى جنباتها مكتبات وملاعب وحدائق فكانت بذلك تقوم بدور ترفيهى استجمامى إلى جانب دورها فى الاغتسال.
وفى كتاب عادات المصريين المحدثين ذكر (إدوارد لين) أنه انتشر فى ربوع مصر نحو ١٧ حماماً شعبياً وكان بعضها حكراً على الرجال فقط والآخر للجنسين؛ فتخصص للنساء الفترة النهارية وللرجال الليل، وكان من المتعارف عليه عندما يكون الحمام للسيدات فقط أن يعلق منديل أو قطعة قماش من الكتان عند مدخله فلا يطأ الرجال عتبته قط.
وقد تحدث المؤرخ الراحل جمال حمدان فى كتابه الشهير (فى وصف مصر)عن الحمامات الشعبية فأكد أنها كانت تمثل عنصراً رئيسياً فى تقاليد الزواج والختان ويتساوى فى ذلك الأغنياء والفقراء حيث اعتادت العائلات على إقامة زفة للعريس وأخرى منفصلة تماماً للعروس من الحمام إلى مكان الزفاف وكان غنى العائلات وسطوتها يقدر بحجم الزفّة والمشاركين فيها من الأقارب والجيران والمغنين. فقد انتشرت أغانى الفلكلور المصرى وما زالت تعيش بيننا حتى الآن ومنها (يا نجف بنّور يا زين العرسان) و(عريسنا زين الشباب طلع الزين من الحمام اسم الله عليه) و(رشوا لى العطر عليه أولها اسم الله عليه والتانية تنين والثالثة خرزة زرقا ترد العين).
كما تؤكد الحكايات عن تلك الحمامات أنه لم يكن إنشاؤها بغرض الاستحمام فقط حيث لعبت دوراً مهماً فى المجتمع المصرى فكانت بمثابة منتدى يقضى فيه الأصدقاء سواء الرجال أو السيدات وقتاً طيباً وتعقد الصفقات بين التجار ويتبادلون المعلومات عن أهم ما يحدث فى مجتمع المال والسياسة وأخبار البلاد فى وقت غياب وسائل الإعلام.
ومن أشهر الحمامات الشعبية فى القاهرة والتى ما زال بعضها يعمل حتى الآن حمام مرجوش، الذى اشتهر بحمام الملاطيلى، وكان هناك فيلم شهير بنفس الاسم أخرجه صلاح أبوسيف عام ١٩٧٣ ولعب بطولته محمد العربى وشمس البارودى ومنع من التليفزيون المصرى بسبب ما احتواه من مشاهد عارية صورت داخل الحمام الحقيقى ويقع فى شارع الأمير الجيوشى المتفرع من ميدان باب الشعرية، وهناك أيضاً حمام الأربع، الشهير بحمام عوكل بمنطقة بولاق أبوالعلا، وحمام التلات، وحمام بشتاك، الذى شُيد فى العصر المملوكى وأنشأه الأمير بشتاك الناصر، أحد أمراء الناصر محمد بن قلاوون، ويقع بمنطقة الدرب الأحمر فى شارع سوق السلاح قرب قصر الأمير بشتاك، أما الحمام المؤيدى فقد شُيد بشارع المعز لدين الله فى حارة الجداوى حيث بناه السلطان المؤيد شيخ المحمودى من المماليك الجراكسة، ويعتبر حمام إينال فى نفس المنطقة من أشهر الحمامات الشعبية فى مصر ويرجع له المثل الشعبى (اللى اختشوا ماتوا) حيث شب حريق فى حجرة الأخشاب التى يستخدمونها لتسخين المياه ووصلت للحمام الذى كان وقتها مخصصاً للنساء فهرب بعضهن عرايا للشارع وجنين من الحريق، بينما خجلت باقى النساء من الخروج للشارع حتى لا يراهن الرجال فمتن من الحريق والدخان، وكان هذا المثل المتداول بيننا حتى الآن. الطريف فى الأمر أن تلك الحمامات عادت للعمل بقوة وأصبحت تنافس النوادى الصحية فى الفنادق الكبرى التى يذهب إليها أبناء الطبقة الراقية للاستمتاع بحمام البخار وغرف الساونا والجاكوزى والتدليك. وعادت من جديد للحياة مهنة (الحمامجية) وهى السيدة التى تقوم بفرك جسد السيدات ومثلها (الحمامجى) للرجال، ولمواكبة العصر تزينت واجهات تلك الحمامات بصور للعرائس وأصبح لها كروت دعاية توزع فى الشوارع كما يتعاقد أصحابها مع سائقى سيارات الأجرة ليأتوا لهم بالزبائن مقابل عمولة نقدية.
وأصبح الآن من المعتاد أن تتفق الصديقات على قضاء يوم ترفيهى لدى «أم رأفت»، وهى صاحبة أحد هذه الحمامات، حيث يذهبن إليها جماعات معاً للتزين والاستمتاع بحمام البخار والتدليك بدلاً من الجاكوزى، ولا مانع من شراء بعض أدوات التجميل أو الثياب من إحدى العاملات بالحمام، والأكثر غرابة وظرفاً أن (تجد الحنانة) فى تلك الحمامات الشعبية وهى تجذب إليها فتيات الجامعة بقولها أرسم الحنة من الإنترنت، فقد تعلمت استخدامه لأن بنات الطبقة الراقية يطلبن منى رسم عين هيفاء وصقر نيكول سابا!!!!!! وعمار يا مصر عمار، وأصل اللى بنى مصر كان فى الأصل حلوانى.