معطيات ثقافة أى شعب أمر خاص به، ومن الصعوبة بمكان أن يقبل المساس بها، وتتجلّى معالم هذه الثقافة فى مجموعة من الطقوس والعادات التى قد نتفق أو نختلف معها، لكنها فى كل الأحوال تتمتّع بقدر من الهيبة والاحترام لدى من يؤمن بها من أفراد الشعب. جانب من غضبة هذا الشعب على الإخوان والسلفيين عندما اعتلوا حكم مصر عام 2012، ارتبط بإحساسه بأن أفكار وطريقة «أصحاب الدقون» فى التعاطى مع الحياة تختلف عن الثقافة السائدة لدى المصريين، وتتصادَم معها تحت يافطة «بدع تتنافى مع الدين». وكانت النتيجة ما تعلمه من خروج الناس ضدهم فى 30 يونيو 2013، مدفوعين بأسباب متنوعة، من بينها التصادم مع بعض ثوابت الثقافة الشعبية.
بعض المسئولين داخل نظام الحكم الحالى يُفكّرون بالأسلوب ذاته، ويؤدون بالطريقة نفسها التى سبق وأدى بها الإخوان والسلفيون. لعلك سمعت عن القرار الذى اتّخذه اللواء عادل الغضبان محافظ بورسعيد، بمنع إقامة موائد الرحمن بالمحافظة خلال شهر رمضان المقبل، بسبب قيام بعض من يقيمون هذه الموائد باستغلال السلع المدعمة بالمخالفة للقانون، قائلاً: «هناك طرق أفضل لتوصيل السلع المدعمة لمحدودى الدخل دون شعورهم بأى حرج». وأضاف: «القرار جاء حفاظاً على كرامة وعزة نفس الناس المحتاجين دون جرح لكرامتهم». لو تأملت كلام المحافظ قليلاً، فسوف تلاحظ ما يسوده من ارتباك ولخبطة، فأىُّ سلع مدعمة تلك التى يتحدث عنها المحافظ؟، إلا إذا كان يقصد أن من يقيم موائد الرحمن هم أصحاب السلع التموينية!. لفتنى فى الكلام أيضاً ذلك الحديث عن الكرامة وعزة نفس المصريين اللتين يريد المحافظ وضعهما تحت الحماية الرسمية، وكأنه أراد أن يوحى أن الحكومة حريصة على كرامة المواطن المكوى بالأسعار والتعويم وخفض الدعم!.
ليس ذلك هو القرار الوحيد الذى أجده متصادماً مع الطقوس الشعبية التى اعتاد عليها المصريون، فقد سبقه قرار آخر بمنع إقامة الخيام والسرادقات فى الموالد. حدث ذلك فى مولد السيدة زينب رضى الله عنها. وأظن أنه سيسرى على بقية الموالد التى اعتاد بسطاء المصريين على المشاركة فيها. هناك أيضاً أحاديث متواترة على ألسنة بعض المسئولين عن ضرورة عدم الإفراط فى الإنفاق على المأكل والمشرب فى رمضان، وأنت تعلم أن المواطن يهوى «البحبحة» على نفسه فى الشهر الكريم، حتى لو بالسلف. لو كان هذا النمط من الدعوات يستهدف الارتقاء بثقافة وسلوكيات المواطن فأهلاً به ومرحباً، بل أجده أمراً يستحق الإشادة، لكن الطريقة التى تُطرح بها هذه الدعوات، وكذا الأسباب التى تُساق فى تبريرها، لا تعكس محاولة للارتقاء الثقافى، قدر ما تعكس رغبة فى لمّ المصريين فى بيوتهم، وتقليل فرص تجمعاتهم الخارجية، كما تعبّر أيضاً عن حكومة عاجزة تريد التوفير على حساب المواطن، ولا تريد فضح أمر أدائها على موائد الرحمن التى يصح أن يتقاطر عليها هذا العام زبائن أكثر عدداً من كل الأعوام السابقة، بسبب الظروف الاقتصادية التى يعيشها المواطن!. من الصعوبة أن أُصنّف هذه الدعوات فى سياق «التغيير الثقافى»، لأن أسلوبها الصدامى مع معطيات الثقافة الشعبية يجعلها أقرب إلى دعوات الإسلاميين لتغيير «عوايد الناس» تحت يافطة «محاربة البدع»، إنها فقط تختلف فى الشعار الذى يتحدث عن «كرامة المصريين»!.