تشهد آليات الصحافة والإعلام حالة غير مسبوقة من الازدهار على مستويات متعددة، حتى أصبحت حياة الفرد والدولة مستحيلة دون التواصل والاتصال ومتابعة الأخبار والمعلومات والآراء، وتحوّل البشر إلى حالة من النهم الشديد لكل ما يُنشر عبر وسائل الإعلام، وأضحى التفاعل ورد الفعل والصدى من القراء والمستمعين والمشاهدين يتحول بسرعة من مجرد المعرفة إلى المشاركة بالفعل إلى اكتساب سلوكيات جديدة فى زمن قياسى لم تعرفه الإنسانية من قبل.. وفرضت وسائل الإعلام نفسها بقوة على قرارات وسلوكيات القادة والحكام والسياسات المحلية والإقليمية والدولية بعد أن ضعفت أساليب حماية الأسرار وأصبح كل شىء متاحاً للنشر وردود الفعل.
وانعكس ذلك على اهتمام الناس بالصحافة والإعلام فتزايدت أعداد الكليات والمعاهد والباحثين والطلاب والممارسين للمهنة، وتضخمت أعداد الجمهور المتابع بدأب للمنتج الصحفى والإعلامى، وتنوعت أساليب الاتصال والتواصل التى تتيح إنتاج مواد صحفية كالأخبار والصور والمقالات والفيديوهات والمقالات والقصص وغيرها.. وسايرت غالبية وسائل الإعلام فى العالم موجة اهتمام الجمهور بالمعرفة وولع الفرد بالتفاعل مع المنشور وطورت من أدواتها ولغتها وأساليب إشراك القراء والمشاهدين فى إدارة الوسيلة الصحفية والإعلامية والتوزيع والإعلانات وإتاحة واسعة لنشر ردود الفعل للجمهور على المنشور.
وفى خضمّ هذا الحراك الهائل وجدنا مهنة الصحافة والإعلام فى مصر تتقهقر، فنجد معظم المطبوعات الورقية بقياداتها ضعيفة التأهيل عاجزة عن ركوب موجة الاهتمام الجماهيرى بالحدث، ومتجمدة فى ذات القوالب الثابتة للتغطية الصحفية، ووجدنا غالبية التليفزيونات والفضائيات بقياداتها ووجوهها المكررة غير قادرة على متابعة الأحداث أو مندفعة فى استخدام قوالب قديمة عفى عليها الزمن أو منحرفة بالعمل المهنى نحو التدنى المهنى والأخلاقى.. ونرى الإذاعة باهتة المحتوى ولا تستخدم ما لديها من تقنيات حديثة لمتابعة الأحداث فأصبحت فى معظم برامجها «كلام والسلام».
وأصبحنا أمام مهنة تذبل قيمها وأخلاقياتها ومنابرها العريقة أمام طوفان من الصحف والفضائيات الناطقة بالعربية ويملكها أجانب تجتذب الجمهور المصرى بقوة وتسيطر على توجهاته وآرائه لمصالح خارجية وبعضها معاد بوضوح للوطن والشعب المصرى، وأصبح الصحفيون والإعلاميون الواعون والأكفاء فى حسرة على ما آلت إليه المهنة على أيدى بعض القابضين على أمورها وغالبيتهم لم ولن يدرسوا علوم الإعلام والاتصال ولا يفهمون معنى بناء الثقة بين القائم بالاتصال والجمهور، وتلك الثقة هى التى تجعل الجمهور يرتبط بالصحيفة أو التليفزيون أو الإذاعة، ورأينا خريجى الإعلام المؤهلين والمدربين على أحدث برامج الاتصال بلا عمل. والغريب أن يتبجح الهابطون بالمهنة إلى الحضيض بأنهم لم يدرسوا الإعلام ونجحوا فى تصدُّر المشهد الصحفى والإعلامى.. والأغرب أن تنهار المؤسسات القومية الصحفية والإعلامية المملوكة للدولة والمنحازة للشعب والمصلحة العامة طوال السنوات الثلاث الماضية ولا يتحرك أحد للمحاسبة والإنقاذ.
إننا أمام مشهد عبثى غير مفهوم وكأننا نرى شخصاً يرتدى بدلة وكرافت وبالطو وحذاء فاخراً ويسير على شاطئ الإسكندرية فى عز الصيف ويدلف بكامل هيئته بين جموع المصطافين لينزل البحر ويتصور أنه يلفت الأنظار ويؤثر فى الجمهور ويجتذب الاهتمام وهو فى الحقيقة أبعد ما يكون عن ذلك، بل سينصرف عنه الناس ساخرين بعد قليل ولن يهتموا بأمره إلا كنكتة باهتة لا تصلح للاهتمام.
لقد آن الأوان أن تهتم كل الأطراف بمهنة الصحافة والإعلام ووسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وأن نمحص وندقق فى من يُسمح له بممارسة هذه المهنة الهامة والمحترمة من القائمين بالاتصال من الصحفيين والإعلاميين فى كل الوظائف التى تشارك فى صياغة الرسالة الإعلامية.. ورصد وتقييم ما يقدم من إنتاج صحفى وإعلامى وتصحيحه وتوجيه المهمل والمخطئ والانتهازى والجاهل بمعانى الانتماء للوطن والمصلحة العامة وحقوق الجمهور إلى الطريق المهنى الصحيح أو يترك المهنة المحترمة إلى سبيل آخر.
لم يعد لدينا وقت للتأجيل أو التجارب أو الإهمال بعد أن أصبح الرأى العام المصرى مستباحاً تعبث فيه وسائل إعلام معروفة للجميع وتوجه الناس إلى مواقف وسلوكيات وأفكار تشعل الفتن وتنمى الغضب والصراع وتنشر الرذائل والفواحش والإحباط وتُضعف الانتماء للوطن وتغيّب الأمل والعطاء والقيم الراقية.. ندعو الله أن يتحرك بسرعة كل من يهتم بعقل وقلب الشعب لإنقاذ المهنة المحترمة.. والله غالب.