«والحق أن النسيان خرافة بارعة وحسبى ما كابدت من خرافات، ولعل شروعى فى الكتابة آية على أننى قد عدلت عن فكرة الانتحار نهائيّاً».
إنه «كامل»، الشاب اليافع بطل رواية «السراب» لنجيب محفوظ، حين أدرك أنه لا مفر من هتك أسرار نفسه المتعبة بعد أن انتهكت الخادمة عرضه وهو طفل دون الـ12 عاماً.
الواقعية الحية لصاحب نوبل اخترقت الجدران الصماء للمجتمع المصرى قبل نحو سبعين عاماً (1948 عام إصدار الراوية) كاشفة بجلاء عن أعنف الظواهر الاجتماعية تدميراً للنفس البشرية (هتك عرض الطفل). إنها المواجهة التى ستظل مبعث آلام نفسية للضحية سواء خاضها كرهاً أو بسذاجة..
حين أقدم «كامل» على الزواج ولم يستطِع إتمام واجباته الزوجية انتبه ظاهراً لأزمته التى لم تكن عضوية بل كانت نفسية إلا أنه عجز عن فهم جوهرها وأسبابها الحقيقية.
وانطلق دون وعى يفتش عن الخادمة القبيحة حيث الغزوة الأولى لاستثارة غرائزه الجنسية وبلوغ النشوة.. والتى تمثلت له فى «عنايات» تلك المرأة التى التقطها من الشارع أو ربما التقطته... وهيئ لكامل أنه ذاك الصبى «العترة» وراح يستوطن حى (الصبية).
«عنايات» تشبه الخادمة فى أدق تفاصيلها، ذاك الجسد المكتنز المائل إلى القِصَر والوجه الممتلئ بتورم والعينين الجاحظتين والأنف الغليظ والشعر المجعد... تلك الصورة بدمامتها هى ضالة «كامل» لإنجاز انفعالاته الجنسية وسرعان ما بات أسيراً للحظات النشوة التى جمعته بامرأة تكبره بـ14 عاماً ذات تجارب غائرة مكنتها من قيادة وإتقان العلاقة الجنسية..
لم تعد الظاهرة الآن بحاجة لاختراق الجدران الصماء ولم يعد ضحاياها جيلاً يعقبه آخر يحتمل بالغ القسوة والمرارة متفادياً البوح إما خجلاً أو تحسباً للانتقاد..
(#أول محاوله تحرش كان عمرى).. هاشتاج انطلق عام 2014 وما زال حتى الآن صاخباً بصرخات حطمت قيود آلام ظلت حبيسة نفوس منكسرة حتى استلهمت بقصد أو دون قصد ما استهل به الأديب روايته «ولعل شروعى فى الكتابة آية على أننى قد عدلت عن فكرة الانتحار نهائيّاً».
هؤلاء الضحايا قرروا أن يكونوا هم الرواة لمعاناتهم الدفينة متخطين عنوان التحرش ليشمل شتى صور الاعتداء الجنسى التى تعرضوا لها وهم أطفال من اغتصاب وهتك عرض ابتداء من سن الرابعة وحتى الـ15. وهنا بدا واضحاً كم «كامل» بيننا موكلاً بعشق الدمامة والكهولة، لا يتزوج علناً إلا من فتاة تكافئه اجتماعياً لكنه أعجز عن الاستمرار دون نموذج عنايات ولو اضطر للزواج منها سراً ليس لهواً بل مرضاً وانكساراً.
إنهم يدركون موطن الداء ويعون أن بداية الشفاء تكمن فى التخلى عن الخجل والتحلى بشجاعة عساها تمكنهم من استدراك ما صعب إدراكه. أن تحكى ربما يحررك من بعض الألم..
لم يعد بمقدور أى منا عزل أطفاله عن عوالم عدة تنفذ بقوة وتشكل فضاءً واحداً مفتوحاً متعدد الثقافات والهويات امتزج فيه المباح بالمحظور، واختلط فيه الممنوع بالمسموح.. لذا لزاماً ونحن ننشئهم على القيم والأخلاق والدين بهدف تحصينهم أن نعلمهم الحكى والرسم والكتابة عمّا يدور برؤوسهم ويداعب خيالهم، عمّا يفرحهم ويؤذيهم.. نعلمهم أن يطمئنوا لنا لا أن يخافونا.. ويثقوا فى أننا لن نخذلهم.