يقول المؤرخ البريطانى هاملتون جب: «يشكل عهد صلاح الدين أكثر من مجرد حادثة عابرة فى تاريخ الحروب الصليبية، فهو يمثل إحدى تلك اللحظات النادرة والمثيرة فى التاريخ البشرى».
أما المؤرخ إدوارد جيبون، فيمتدحه قائلاً: «كان متواضعاً لا يعرف البذخ ولا يرتدى إلا العباءة المصنوعة من الصوف الخشن، ولم يعرف إلا الماء شرباً، وكان متديناً قولاً وفعلاً».
أما المؤرخ الفرنسى كلود فيرى «أن صلاح الدين كان الشخصية الشعبية الأكثر تقديراً لدى عامة المسلمين خلال عصر الحروب الصليبية».
المؤرخ البيزنطى نيكتاس خونياتس الذى شاهد بأم عينيه سقوط القدس فى يد الصليبيين وما فعلوه بهذه المدينة العريقة من سلب ونهب وهتك أعراض نسائها، حتى راهبات الأديرة لم يسلمن من هذا الفعل الفظيع، هذا المؤرخ حين يتحدث عن صلاح الدين ودخوله على رأس المسلمين القدس، تختلف نبرته وتعتدل لهجته ويقول: «المسلمون أكثر رحمة من الصليبيين، فعندما استعادوا بيت المقدس عاملوا اللاتين بلطف ورقة، وحافظوا على حريمهم، ولم ينتهكوه، ولم يدنسوا على الإطلاق قبر المسيح، وحرصوا على عدم دفن موتاهم بجواره».
ويقول عنه المؤرخ الإنجليزى رونيسمان «لم يكن صلاح الدين مثل ملوك الصليبيين، لم يتراجع عن كلمته مطلقاً مع أى شخص بغض النظر عن ديانته، وكان دائماً مجاملاً كريماً رحيماً حينما يكون منتصراً، وكان قاضياً عادلاً متساهلاً».
هكذا اعترف الغرب بفروسية وشجاعة صلاح الدين، وأن أخلاقه تفوق أخلاق فرسان أوروبا الذين قتلوا آلاف النساء والأطفال المسلمين وغدروا بهم بعد تسليم المدن بشرط عدم التعرض للأهالى، وسلبوا قوافل الحجيج وقتلوهم.
ولكن فى بلادنا الحزينة ما زال البعض يستمتع بالتبول فى بئر زمزم بين الحين والآخر طلباً للشهرة والجوائز، لم نتخيل يوماً أن يقال «المسجد الأقصى فى الطائف وليس فى القدس» أو أن يسب صلاح الدين سباً مقزعاً لا يتفوهه العلماء، المسجد الأقصى وهم وصلاح الدين خرافة والبخارى أكذوبة وتاريخنا مزور، حتى الذى عشناه وكابدناه يريدون تزويره.
لماذا تتعبون أنفسكم فى تحرير المسجد الأقصى وهو لديكم فى الطائف؟!
وكأن الملايين الذين ذهبوا إلى المسجد الأقصى وشدوا الرحال إليه واعتكفوا فيه أو حاربوا من أجله أو بذلوا أعمارهم من أجله كانوا واهمين غافلين.
واليوم يهال التراب بطريقة لا تمت للعلم بصلة على الرجل الذى استطاع تحرير القدس.
تسعون عاماً قضاها الصليبيون فى القدس، عجز الجميع عن تحريرها ولكن الله شرف صلاح الدين دون غيره بهذا الشرف العظيم بعد 27 عاماً من الكفاح والنضال، حتى قال عنه المؤرخ ابن شداد: «عاش 27 عاماً فى خيمة تهزها الرياح يمنة ويسرة».
صلاح الدين كان يستطيع فتح القدس عنوة ليحمل سيف الانتقام والثأر من الصليبيين الذين كانوا يحتمون بأسوارها رداً على المجازر المخزية التى صنعها فرسان الصليبيين، أو يقابل غدرهم بمثله ولكنه أبى ذلك، ولم يتعرض لأحد من سكان القدس، خرجوا كراماً، عطف عليهم، دفع عنهم الفدية، أكرمهم وصفح عنهم وأحسن وفادتهم، ويمكنكم مراجعة ما ذكره مؤرخ الحملة الصليبية «أرنول المعاصر» وهو يمدح صفح وعفو صلاح الدين عن المدنيين والنساء والأطفال.
لم تأت انتصارات صلاح الدين على الصليبيين، خاصة فى «حطين» صدفة أو ضربة حظ بل كان وراءها فكر سياسى وعسكرى وتعبوى ودينى ومعنوى رائع لصلاح الدين.
القدس لا تعرف إلا اثنين، عمر بن الخطاب الذى فتحها صلحاً وأبى رهبانها أن يسلموها لأى أحد سواه، لأن صفاته موجودة لديهم فى الكتب المقدسة، وصلاح الدين الذى حررها، وكلاهما تعامل معها بمنتهى الرفق والرحمة والعفو والصفح.
لو أن حاكماً عربياً اليوم أنجز واحداً فى المائة مما أنجزه صلاح الدين لحولناه إلى قديس.
صلاح الدين لم يكن مجرد قائد عسكرى بل كان حاكماً زاهداً ورعاً، لم يعش فى القصور ولا مات عن المليارات كأصغر حكام العرب، فهو لم يترك أى أموال أو قصور أو ضياع يملكها رغم أنه كان يحكم إمبراطورية تمتد من مصر والشام والحجاز واليمن.
وهل يتصور صاحبنا أن الدولة الفاطمية دخلت مصر بأغصان الزيتون، لقد دخلتها بجيوش جرارة وقتلت من أهلها وجيشها الكثير واستلبت حكمها عنوة، وفرضت المذهب الإسماعيلى الشيعى بالحديد والنار.
الفاطميون دخلوا مصر بالقوة، وصلاح الدين لم يفعل، صلاح الدين أراد أن يقيم دولة تتوافق مع السواد الأعظم للمسلمين، ولذلك قاوم كل محاولات الانقلاب المسلح عليه فى وقت حرج يحارب فيه الصليبيين، التمرد المسلح لا يواجه إلا بالسلاح، لا مزاح فى بناء الدول، وكان لا بد من تطهير الجبهة الداخلية قبل التفرغ لتوحيد مصر والشام لمحاربة الصليبيين وتحرير القدس.
صلاح الدين لم يحرق مكتبة القصر، وإنما أزال منها كل الكتب التى كانت تنضح الغلو والتطرف ضد الصحابة، وتمجد مذهب الإسماعيلية، وهو مذهب الحشاشين المعروفين بالغدر والخيانة والاغتيال.
حقائق التاريخ تقول: تقييم أى حاكم يخضع لمعطيات عصره وزمانه وبحسناته وسلبياته، وحسنات صلاح الدين كالنهر الجارف الذى يغمر أى هنة.
الإساءة لصلاح الدين تسىء للأكراد فى وقت عصيب يطلبون فيه الانفصال ويعتبرون صلاح الدين أعظم رمز كردى.
صلاح الدين الكردى يمثل نموذجاً فريداً فى استيعاب الحضارة الإسلامية لكل مكوناتها العرقية، وأن معيار التقديم الوحيد فيها هو الكفاءة والأمانة، وهى التى جعلته زعيماً للعرب قاطبة وبطلاً نتغنى به كأعظم رمز يمكن التأسى به بعد الأنبياء والرسل، والصحابة وحوارى الرسل، تحية وسلاماً إليك يا من رفعت رؤوسنا حياً وميتاً.