المداخلة التليفونية للسيد الدكتور مختار جمعة وزير الأوقاف، التى شارك بها فى أحد البرامج الحوارية الشهيرة رداً على المدعو عبدالله رشدى، تناول فيها برصانة وقوة أدبيات وفقه أولويات الدعوة والمناظرة بين الأديان. حقيقة جاء حديث الوزير فى وقته تماماً، وهو مما يهدئ الخواطر قليلاً فى ظل موجة «منطقية» من القلق تلف عقول وأفئدة الكثيرين، خاصة والقضية تتعلق بالأديان، أو فى فصلها الأخير الخاص بقضية ازدراء الشيخ سالم عبدالجليل للدين المسيحى، والتى كانت الحلقة التليفزيونية «استخفافاً» تضع تلك القضية موضوعاً لها، باصطناع طرفين يتحدث كل منهما معبراً عن وجهة نظر تصطدم وتكيل الاتهامات للطرف الآخر، والاشتعال المنتظر «منطقى» إن لم يكن هو الهدف الرئيسى للحلقة التليفزيونية.
موجة القلق الواسعة المشار إليها، معقدة ومتداخلة، وبها عشرات المحطات الرئيسية ومئات الفرعيات، لذلك كان البحث عن طرف خيط يمكن الإمساك به مهمة شاقة، فالموجة أساسها حالة احتقان دخلت مرحلة الخطر لدى الأشقاء المسيحيين، وهى مرصودة لمن يمتلك قدراً معقولاً من الانتباه لما يجرى تحت السطح. كتب عنها ودق جرس إنذار لها أكثر من شخصية عاقلة، لذلك تمثل لى بداية الخيط من حديث وزير الأوقاف المهم. فقد تناول العديد من النقاط فائقة الأهمية، فبداية الحديث منه شخصياً يظل أبرز نقاط تميزه، لأن خروج تلك الأطروحات من عضو فى سلطة الدولة التنفيذية يعد تعبيراً صادقاً عن جدول أعمال الدولة، وهذا فى حد ذاته وضع تلك النقطة كإجابة مباشرة للمسيحيين. فقد تردد لديهم وبقوة خلال الأشهر الأخيرة سؤال حاكم حول توجه الدولة، وأين موضعهم منها وكيف تنظر لهم، وأظنهم كانوا فى احتياج لأن تأتيهم الإجابة هكذا ومن دون مواربة. وأتمنى أن تكون قد وصلت الرسالة فى هذا الشأن تحديداً، وإن ظلت لم تبدد الهواجس كاملة، لكن لهذا منحى آخر يجب ألا يخصم من قدر وأهمية تلك الإجابة ولا يسمح لها أن تمر فى الزحام.
لم يكن الوزير متردداً ولا مداوراً وهو يتحدث عن قاعدة المواطنة الكاملة، وينسف ويذم بعبارات جلية محاولة تصوير الأمر «من البعض» كونه «إحساناً» دينياً يفرضه الدين الإسلامى. وهذا يضع الأمر فى إطاره الصحيح، فهو من الأركان الحاكمة لبناء الوطن ولا محل فيه للإحسان من أحد على الآخر، لكن وهنا الحديث لباقى عناصر سلطة الدولة، ما يجب الالتفات إليه، أن هذا التوجه لا تترجمه «الكثير» من تفصيلات العمل والأحداث اليومية للعناصر المشار إليها. فما يصل إلى المسيحيين أنه يتم الالتفاف حول هذا الطرح فى «معظم» ما يخصهم من أمور، وأن هناك توجهاً موازياً يحاول أن يصل بالرسالة إليهم بقبول المتاح من الصورة. حتى إن شابَ هذا الاستقبال قدر من المبالغة أو بدت مجموعة من الذرائع جاهزة للتبرير، لا يجوز بأى حال من الأحوال اعتبار أهمية رسالة من هذا النوع تكمن فى مجرد إرسالها، فالواقع يحتم أن يتم حساب «وبدقة» مقدار استقبالها، وهذا هو الفيصل دون غيره.
ما وقفت عنده من حديث الوزير المهم، أنه ربط ما يحدث اليوم من عبث العابثين بأنه مسار يوازى ما فشل الإرهاب فى صناعته، ويقصد بذلك شق الصف الوطنى وجبهتنا الداخلية. وهذا ربط أجده يلمس جانباً خطيراً من الحقيقة، ويقترب منها حد التماس، فوفق رصدى الشخصى لما طرأ على استقبال المسيحيين للأحداث الاعتيادية بعد حوادث تفجير الكنائس، أجده يختلف كثيراً عما قبلها، فقد صارت حساسيتهم حاضرة وظاهرة فيما يتناولونه من شئون، وتراجع استقبالهم للأمور عامة خطوات لتدخل حيز القياس على موضعها «منهم». وهو متغير لم يكن موجوداً من عام واحد مضى، فقد كانت العناوين بصيغة «نحن» هى الأقرب إلى الآذان والأفئدة، وفى مناخ كهذا تعلو أصوات مسيحية قادرة على ترجمة أى حديث إلى اللهجة القبطية، لذلك لم يكن غريباً ما اجتاح وسائل التواصل من المقاطع المصورة على هيئة فريقين متضادين. كلاهما يحاول الانتصار فى مباراة تستدعى الخجل سريعاً بمجرد دخول أول صوت عاقل ينبه إلى عبث ما يدور.
من السهل الإفلات من حديث هكذا، بل واتهامه بالمبالغة، لكن الأوقع من الناحية الأمنية المجتمعية أن يظل حاضراً، وأن يقابل بعيون مفتوحة على كامل اتساعها، وأذهان قادرة على التقاط الشاردة والتفاعل معها. بالطبع المقصود هنا فيما يتعلق بالأشقاء المسيحيين، لأن ما قد يرتكبونه اليوم هو ردة فعل، لفعل يتشكل مترهلاً لا يدرك حجم ما يسببه من تداعٍ، ويرتكن على مراهنات النسيج الواحد المعرض اليوم لاختبار حرج من الحماقة «كما وصفها وزير الأوقاف»، أن ندفع به بأيدينا إلى مناطق أكثر وعورة. تماماً كالأحاديث الهزلية والسخيفة التى يديرها إعلام فاقد للوعى، يظن أن أحداً يصدق أنه يعالج مشكلات أو يطرح ويتناول قضايا، هى فى الأصل ليست من اختصاصه ولا الزوايا التى يستعرضها قابلة للطرح هكذا من الأساس!
أتمنى ونحن نخطو خطوة محمودة فى التحقيق ومحاكمة الشيخ سالم عبدالجليل بتهمة ازدراء الدين المسيحى، أن يصدر قرار بحظر النشر فى تلك القضية، وأرجو من الزملاء والأصدقاء فى المنصات الصحفية والإعلامية أن يتجاوزوا نشر أخبار وبيانات متوقع صدورها تتعلق بالموقف من «عبدالجليل» تأييداً أو إدانة. فالمشهد فى أشد الاحتياج للتبريد قبل الدخول لعلاج التصدعات الظاهرة، ومن يغفل عنها أو ينكرها أو يتحجج بمرجعيات مغايرة، فهو بلا شك يخدع نفسه ويحاول أن يمارس علينا فعلاً لا نستسيغه، فالأمر جد ولا يقبل القسمة على أى من أرقام الهزل الكثيرة من حولنا.