وتشدو فيروز رمز لبنان مطربة الجبل بما يجيش فى صدورنا جميعاً دون أن نستطيع أن نعلن عنه خجلاً وربما خوفاً ورغبة فى الكتمان، تشدو بأغنيتها الرائعة التى كتب كلماتها جوزيف حرب ولحنها لها زياد الرحبانى (أنا عندى حنين) ليشعر كل منا أنها تتحدث عنه وتغنى له، فتعيد لذاكرتنا كلمات جبران خليل جبران، عندما قال (الوجع أصم. والحنين أخرس. والشوق لا يرى وأصدق ما نشعر به. أصعب من أن يرى)
والكلمة التى يتحدث عنها الشعراء وتتغنى بها الأصوات السمائية لها الكثير من المعانى فى قاموسنا العربى، فالحنين هو صوت الأم لولدها، وصوت من فى فؤاده نزعة ألم، وصوت العود عند النقر عليه، وصوت الريح والنسيم الرقيق، وصوت المشتاق، ويكفى أنه من أجمل التعبيرات التى يشترك فيها الحنين (حن الدم على الدم أى أثرت فى نفسه قرابة الدم)
وحنين (اسم واد بين مكة والطائف) واللفظ ينتمى إلى مجموعة الرأفة والرحمة والحنان والبشر والأنس، والحنان هو اسم من أسماء الله عز وجل، بمعنى الرحيم بعباده، وحن فعل بمعنى اشتاق.
ولأن الحنين يملؤنى فقد بحثت داخلى، وعددت الأسماء التى يمكن أن أشعر به تجاهها فوجدتك أنت يا وطنى أول الأسماء وأقربها وأغلاها، أنت الذى يحاصرنى حنينى إليه ويملؤنى، وتذكرت كيف كنت أسمع صوت الأذان وقت كل صلاة وأنا بعيدة عنك بمسافة عشر ساعات بالطائرة، فى مدينة لا يوجد بها مساجد ولا كنائس إلا ما ندر، وأقسم بحنينى إليك أن هذا الصوت كان يصلنى ويدهشنى، وكنت أرى شوارعك المزدحمة فى كل طريق أسير فيه فى الغربة وأجتهد لأجد أى تشابه يرضينى ويمنحنى جرعة من الصبر على الابتعاد، وفوجئت الآن بعد أن عدت لأحضانك أن هناك حنيناً، وإن كان من نوع آخر فقد اشتقت للكثير من الطقوس والعادات والتقاليد التى كونت وجدانى منذ الطفولة، وذهبت مع ما ذهب من جمال ونقاء وبراءة، فأين هذا الشعور الدافئ الذى كان يدغدغ مشاعرنا ونحن ننتظر ساعى البريد يحمل لنا الخطابات التى تحولت إلى رسائل إلكترونية، وأين فرحة ولهفة انتظار الإعلان عن ظهور هلال رمضان أو العيد الذى أضاعه التقويم الفلكى بعد أن أصبح يحدد جميع الأعياد منذ مطلع العام، وكم فقدنا من متعة وروحانية عندما لم نعد نسمع تواشيح الشيخ النقشبندى وأذان المغرب بصوت الشيخ محمد رفعت، ونستيقظ صباحاً على برنامج طريق السلامة وكلمتين وبس، وصوت الرائعة صفية المهندس تقول لأمهاتنا اتصبحوا بالخير، بعد أن يستمعوا لحكايات عيلة مرزوق أفندى، وفى منتصف النهار نزور مكتبة أحد المشاهير ونتصفح أندر المخطوطات فى برنامج زيارة لمكتبة فلان من نادية صالح، وبعده نزور مرضانا مع سامية صادق فى برنامج حول الأسرة البيضاء، الذى علمنا معنى الواجب والإنسانية وزيارة مرضانا، كم يملؤنى الحنين لصوت فاروق شوشة يتحدث عن لغتنا الجميلة، والشاعرة الراحلة سلوان محمود تدغدغ أحلامنا بصوتها الرقيق وهمساتها فى قطرات الندى، والعملاق فاروق خورشيد يدعونا لسماع قصة مسلسله الشعبى سيف بن ذى يزن، وعمار الشريعى يطربنا فى سهرته الأسبوعية غواص فى بحر النغم.
ما أصدق كلمات فيروز، فأنا للحق أقول أنا عندى حنين لمنزلنا القديم وشرفته، عندما كنا نجتمع فيها حول أكواب الشاى وحلوى جدتى، ونظل نتابع منه حتى الصباح زوار السيدة زينب يوم مولدها، ولصوت بائع الصحف ينادى باسم أخى، وصوت المسحراتى فى ليالى رمضان يدعونا كل باسمه، دون أن ينسى أحداً، عندى حنين لحضن أمى وهى تهدهدنى وتدللنى وتدعو لى وتكرر الدعاء دون ملل، ولرائحة طعامها التى تملأ منزلنا وتدفئ ليالى الشتاء الباردة، ولصوت أبى ينادينى بأحب الأسماء إلىَّ ولملمس يديه وهو يمسك بى وكأنه يحمينى من الأيام وقسوتها وأنا فى طريقى للمدرسة، ولذراعيه اللتين ضمتانى وكأنهما لا تريدانى أن أبتعد يوم عرسى وأنا ذاهبة لبيتى الجديد، ولهذا الإحساس الرائع بالأمومة حين احتضنت ابنى لأول مرة وشممت أنفاسه ورأيت ملامحه، وحنين لفرحته الطفولية البريئة عندما كان يجدنى أمامه بعد ساعات ابتعاد فيعدو ليختبئ بين ذراعىّ، أجل أنا عندى حنين لصوت عبدالحليم حافظ يقول اشتقت إليك فعلمنى أن لا أشتاق، ولأم كلثوم حين تسأل هل رأى الحب سكارى مثلنا، ولعبدالوهاب يشدو علشان الشوك اللى فى الورد بحب الورد، ولضحكة سندريلا الشاشة وهى تغنى الدنيا ربيع، وفايزة أحمد حين تقول بيت العز يا بيتنا على بابك عنبتنا، وما أقسى الحنين لأشياء ذهبت ولن تعود، ولأحلام نعلم جيداً أنها لن تتحقق، لذلك أقول لأحبتى وأصدقائى يكفيكم فى هذا الزمان أن تستمعوا لفيروز وهى تقول أنا عندى حنين.