تحسبهم بيننا وهم هناك موجودون عدداً وجسداً وربما تأثيراً أياً كانت درجة ونوعية التأثير ولكنهم ليسوا معنا ليلتهم الاغتراب أيامهم وعقولهم أنهم مهاجرون داخل الوطن فهم لا يرون فى الوطن قبلتهم ولا يدركون ولا يشعرون انتماء إليه والمؤسف أن أغلب المهاجرين داخل الوطن شباب فهناك المهاجر الذى يعانى من الاضطراب الثقافى نتيجة نوعية التعليم ونوعية الأهل والوسط الاجتماعى حيث الثقافة واللغة والأسلوب والذوق مختلف ولا توجد لديه محفزات اجتماعية تجعله يدرك قيمة المكون والتراكم الحضارى لبلده وبالتالى فهو يتمثل الحلم فى مجتمع آخر يعيش بلغته وينبهر بشكله ويرى فى المجتمعات الأخرى النموذج بصرف النظر إذا كان هذا النموذج مثالياً كما يراه أم أنه بريق الانبهار وأحلام استندت على المتصور بغض النظر عن مفاهيم وحقيقة تلك الصورة وهناك المهاجر الذى يعانى عدم التحقق ولا يملك من أدوات هذا التحقق سوى حماس وذكريات لحظات تغيير توقع فيها أن يقود هذا المجتمع لكن ذلك لم يحدث فتحول حلمه إلى صدمة وأصبح إما ناقماً أو حاقداً أو محبطاً وذهب إلى رحله الاغتراب وهاجر بانتمائه وهناك من يهاجر إلى الأفكار الفاسدة والشاذة أياً كانت هذه الأفكار تطرفاً أو إلحاداً أو غيرهما وهؤلاء لديهم إنكار تام لأى فكر آخر فهم الصواب المطلق والفكر الأصلح وهناك من يهاجر إلى الإدمان حيث فتنة كل أنواع المخدرات وحيث يموت الحلم ولا يجد لنفسه موقعاً فى واقعه فيهرب إلى الدمار وتتعدد الأسباب والنتيجة أن الوطن يفقد هؤلاء دون انتباه ودون يقظة ودون إدراك فداحة الخسارة أو الوقوف على الأسباب، أما النوع الأول من الهجرة الناتج عن اضطراب الثقافة لأن الشاب يجد نفسه فى نوعية تعليم ووسط اجتماعى مختلف لم يجد ما يملأ فراغه العقلى الا الالتصاق بالأشياء المظهرية والارتباط بأشكال دون الاهتمام بقيم هى الأهم فى هذه المجتمعات التى هرب إليها وهو لا يجد فى وطنه مكوناً مقنعاً من الثقافة أو العلم يمتلئ به فيجمع بين الثقافات كما حدث مع طه حسين، وغيره كثيرون، ولا يدرك هؤلاء الشباب أن هناك مصريين لديهم ارتباط علمى وثيق بالخارج يقيمون هناك ولكنهم الأكثر ارتباطاً والأكثر إحساساً بالوطن لأنهم يرتبطون بقيم أكثر تحضراً وليس ارتباطاً بأشكال اجتماعية فقط، وأما الشباب الذى هاجر انتماؤه منه وأصبح غريباً فنتيجة عدم تحققه سياسياً فلا بد من فتح المجال العام ولا بد ألا تكون السياسة عملاً فردياً أو جهداً ذاتياً أو فعلاً عشوائياً لا بد من وجود قوى سياسية تعبر عن جماعات حقيقية فى المجتمع وأحزاب حقيقية وليست مجرد أرقام ولا تمثل إلا مؤسسيها، لا بد من استيعاب طاقات الشباب وفتح أبواب الحلم بطرق وآليات صحيحة بعيداً عن الأوهام، أما المهاجر إلى الأفكار المتطرفة، دينية كانت أو ملحدة، فهو مفتون بأفكاره وهواجسه التى تخرج كحية تسعى ومتعصب حيث أغلقت أمام عقله ولم يجد ما ينتمى إليه سوى التعصب لفكره الذى يراه الحق والأفضل ولا يرى أنه انحرف لديه ميزان الصواب فجعل الصالح طالحاً والطالح صالحاً، هذا الشاب لم يجد الفكرة الوطنية لينتمى إليها ووجد ضالته فى سماسرة اللعب بالعقول لتخريبها وتجهيلها وإبقائها خامدة بعيداً عن شعاع العلم والتحضر والإنسانية، ولو أن الوطن لديه أفق لتعليم قوى وعلم نافع وعدالة اجتماعية لوجد الشاب مصلحته المعنوية فى أن يكون عنصراً فعالاً منتمياً لمجتمعه، فالوعى والعدالة الاجتماعية تحصنه من البحث عن شىء آخر ينتمى إليه ويتعصب له، لا بد أن نوقن أنه كلما ضاقت فكرة الوطن اتسعت فكرة التطرف فى الدين، وكلما كانت فكرة الوطن واقعاً ورافعاً وحافزاً اختفت فكرة أعراض التعصب الدينى واختفت أعراض التعصب السلبى، فالطاقة إما أن توجه سلباً او إيجاباً، فهل ندرك كيف وإلى أى اتجاه نوجه طاقة الشباب؟ هل نمتلك علم وفن الاحتواء الاجتماعى، أم أننا استسلمنا جميعاً للنزعات الفردية ولهروب الدفء والتماسك العائلى وغياب القدوة الصحيحة وغياب وجود مشروع للوطن؟ وكل هذه الأسباب تؤدى إلى طرق المخدرات المرصوفة بالإحباط والاغتراب والوطن لا يعانى فقط نوعيات الاغتراب المختلفة التى تجعل شبابه مهاجراً وهو بداخله ولكن لديه أيضاً أسرى عاجزين عن فعل أى شىء لا يعيشون كما يريدون قليلى الحيلة أسرى فقرهم وعجزهم وجهلهم بينهم وبين حدود الحياة الكريمة أميال ومستحيلات ولديهم تعثر يسد فى وجوههم مفارق الحياة وإذا كان أكثر من نصف المجتمع إما مهاجراً أو أسيراً فالنصف الآخر فى المجتمع لا بد أن يدرك أن لديه القدرة لإعادة المهاجرين وفك أسر العاجزين، ولا بد أن يدرك أنه لا خيار أمامه سوى ذلك وأن مصلحته تحتم عليه أن يبدأ الآن وبقوة وبإرادة ويقين أنه لا حل آخر، فنظرية نهرو التى طبقها فى الهند لا بد من استدعائها فهو كان يرى أن هناك طبقة كبيرة فى المجتمع لا حيله لها وأن الطبقة المتعلمة القادرة التى لا تعانى الفقر والجهل عليها أن ترفع الطبقة الأخرى ولو لم تفعل ذلك لسقطت فوق رأسها ودمرتها، والمعنى إذا لم ندرك ضرورة رفع هذه الطبقات سيسقط المجتمع كله.