تنشيط واجب لذاكرة الأزمة.. البرلمان اعتبر حكم تيران وصنافير افتئاتاً من «مجلس الدولة» على حقه فى مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود، وانحاز للحكومة.. التشريعية بدأت مناقشة مشروع تعيين رؤساء الهيئات القضائية 25 ديسمبر 2016، أيام قليلة وكُشِفَ النقاب عن قضية الرشوة الكبرى، تورط فيها مدير إدارة المشتريات بـ«المجلس»، وانتحر الأمين العام بمحبسه.. «المجلس» أخطر البرلمان منتصف يناير 2017 بإلزام الأعضاء بما جاء بالدستور «المادة 103»، واللائحة «المادة 354»، بشأن تفرغ النواب لمهام العضوية، خاصة أنهم يحتفظون بالرواتب والبدلات، وبالوظيفة والأقدمية، فى المكافأة والمعاش، لم يتوقف التلويح بتحريك الدعاوى المرفوعة بحل البرلمان لأسباب تتعلق بانتهاك الدستور، حتى صدر القانون 13/2017 نهاية أبريل.. «المجلس» والبرلمان انزلقا لدائرة المكايدة، بعيداً عن قواعد الدستور والقانون والفصل بين السلطات.. المجلس الخاص -أعلى سلطة إدارية بـ«المجلس»- أرسل موافقته الرسمية وحدد السبت 13 مايو موعداً لإرسال الـ3 أسماء المرشحة لرئاسته إلى رئاسة الجمهورية، بعد انعقاد الجمعية العمومية، استبقها باجتماع ضم أقدم سبعة مستشارين، اتفقوا على ترشيح أقدم ثلاثة نواب «يحيى دكرورى، وفايز شكرى، ومحمد زكى»، أسوة بما فعل القضاء العادى وهيئتا النيابة الإدارية وقضايا الدولة، لكن العمومية فاجأتهم باتفاق الأغلبية على فكرة طرح مرشح واحد «الدكرورى»، التى تبناها عدد منهم، وروجوا لها قبل أسبوع من موعد الاجتماع، ونجحوا فى تمريرها.
شيوخ «المجلس» لم ينفوا مخالفة تقديم مرشح واحد للقانون، وسلموا بحق الرئيس فى اختيار واحد من بين أقدم سبعة، لكن القرار فى هذه الحالة يتعارض مع القانون، الذى ينص على أن الجمعية العمومية لـ«المجلس» هى الوحيدة صاحبة الحق فى اختيار رئيسه، المنظومة كلها كانت فى حاجة لمراجعة شاملة بدلاً من التسرع فى تعديل بند واحد من القانون، «المجلس» برأ القرار من شُبهة تحدى الدولة، وبرره بالحرص على إعفاء شيوخ «المجلس» من التقييم، سواء بمعرفتهم لو اختاروا أحد الثلاثة خارج ترتيبه فى سلم الأقدميات، أو بمعرفة الجهات المعنية بالاختيار لو تجاوزت الأقدم وعينت الأحدث، وهو طرح لا يخلو من وجاهة، فحتى بالمؤسسة العسكرية، مدرسة الإدارة بمصر، لو تم تجاوز الأقدم فى الترقى يخرج من الخدمة بقوة القانون، ومجلس النواب، يترفع الرئيس عن التدخل فى تعيين رئيسه، أو حتى رؤساء اللجان النوعية، فلماذا مؤسسة القضاء؟!.. فى رسالته للسيسى قبل عقد العمومية، شرح الدكتور محمد عبدالوهاب خفاجى، نائب رئيس «المجلس»، الأبعاد المختلفة للأزمة بموضوعية وتجرد، ولفت إلى أن «تخطى الأقدم بالأحدث فى مؤسسة القضاء يكون على سبيل العقاب، لمن يخالف أسسه وتقاليده وهيبته، ويخرج على قواعده، ويتم عن طريق مجالسه المختصة بالتأديب».
الإخوان والمعارضة المتربصة اعتبروا موقف «المجلس» بداية لـ«معركة استقلال القضاء»، هاشتاج «#ادعم-مجلس-الدولة» تصدر تويتر لعدة أيام، باعتباره الأكثر تداولاً عبر مواقع التواصل، ما يعكس كثافة التعبئة والحشد، لخطة تشتمل على محاور عديدة؛ أهمها تعميق الأزمة وسد مسارات حلها والعمل على شيطنة الدكرورى؛ ما يفرض التفهم الموضوعى لمرتكزاتهم، خاصة أنهم حين أرادوا تقريظه، وصموه بـ«مستشار ضد الحكومة» بعد حكم تيران وصنافير، قادحين فى استقلاليته.. أحكام الرجل فى القضايا المتعلقة بالإخوان جاءت لصالح الدولة ومؤسساتها، خاصة الحكم الصادر فى فبراير 1992 برفض دعوى الطعن على حل الجماعة، ومصادرة أموالها 1954.. عمل مستشاراً بالدوائر السيادية؛ البنك المركزى، البرلمان، مجلس الوزراء، ما ينفى عنه فكرة العداء معها، حُكم وقف الانتخابات البرلمانية 2013 تزامن مع الصدام بين القضاء والإخوان، ومثل تعطيلاً لهم عن استكمال مؤسساتهم التشريعية، حكم إيقاف انتخابات مجلس النواب بعد 30 يونيو كان بسبب قانون تقسيم الدوائر، ولتنفيذ قرار اللجنة العليا للانتخابات بإجراء الكشف الطبى على المرشحين.. مراجعة أحكامه تعكس توازناً واعتدالاً وموضوعية؛ عندما أصدر الحكم بعرض فيلم «حلاوة روح» أعطى أولوية لحرية الفن والإبداع، عندما رفع قيود السفر عن محمد جبريل الموالى للإخوان، كانت أولويته حرية الفرد ما لم يضر، وعندما ألزم الحكومة بحجب المواقع الجنسية استهدف التنبيه لدورها فى حماية المجتمع، تحفظه على عمل المرأة كقاضية، يتسق مع إجماع «المجلس» من ناحية، وتبريره بعدم ملاءمة اجتماعها بغرف المداولة المغلقة لساعات طويلة مع زملائها، درءاً للشبهات، شارك صراحة فى مظاهرات 30 يونيو 2013، تعبيراً عن موقف مضاد للإخوان، رغم ما يفرضه عليه وضعه الوظيفى من قيود على الإفصاح عن هواه السياسى، لكن محاولات الإخوان النيل من مؤسسة القضاء دفعته للانحياز، فى وقت التزم فيه غيره برهانات مخالفة.. هى دعوة لتقييم موضوعى متجرد، لا ترويجاً ولا انحيازاً للرجل.
زهد السيد الرئيس فى المنصب يُحسب له فى اللحظات العصيبة، التى تفرض عليه حال وقوع أزمة بين السلطات المبادرة بسرعة التدخل، للحفاظ على آليات «التدقيق والموازنة» بالنظام السياسى، دون الانزلاق فيها، أو الانحياز لطرف، فهو رئيس الدولة، ورمانة الميزان بين السلطات، كل البدائل المطروحة للتعامل هنا بالغة الصعوبة، ومحفوفة المخاطر، فاللجوء للدستورية يتطلب وقتاً طويلاً، يتيح لتداعيات الأزمة، بدعم الإعلام المضاد، ووسائل التواصل الاجتماعى، المساس بأركان النظام، فضلاً عن أنه ينتهى بانتصار إحدى السلطتين بالقاضية، ما يجعله حلاً سيئاً.. استخدام الرئيس لحقه فى اختيار رئيس آخر للمجلس من بين اقدم سبعة يثير المخاوف من احتمال توافق الستة الآخرين على الاعتذار، أو تجميد الجمعية العمومية لصلاحياته.. احتواء العاصفة حتى تمر بسلام، وتعيين المرشح الوحيد الذى عرضه المجلس، خلافاً للقانون، يعنى تحميل الرئيس تبعات الأزمة، وذلك فى غير صالح السلطة وهيبتها، خاصة أن المناخ السائد قد يشجع على التكرار.. إذن لا بديل سوى إعادة تصدير الأزمة للمؤسسات المعنية بها، بتفويض الجمعيات العمومية ومجالس القضاة باختيار قائم مؤقت بأعمالها، وإعادة القانون 13/2017 لمجلس النواب، مصحوباً بتوجيهات صريحة لتفعيل ما ورد بالدستور بشأن التوافق بين السلطتين على مراجعة منظومة القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية خلال فترة قصيرة ومحددة.
وتظل انتخابات الرئاسة عنصراً ثابتاً بخلفية كل مشاهد الأزمات التى تعصف بنا، نشاط أصحاب «الفريق الرئاسى»، وأنصار «جنينة»، و«خالد على»، عودة «المعتمر المهاجر»، وإعادة بعث «عنان»، كلها شخوص هيكلية، ضمن خلفية باهتة، لمسرح خفى، يتم فيه صياغة المرشح الرئاسى المنافس، يبدأ الترويج له بتجسيد المظلومية، بعد استبعاده من رئاسة «المجلس»، ويترقب موافقة البرلمان على تسليم تيران وصنافير للسعودية، لإطلاق حملة التأييد الشعبى الواسع، وتتويجه كبطل وطنى.. هل أدرك البرلمان أن الإدارة بالأزمات تنقلب على صُنَّاعها؟!