ليس هناك أصعب من بوح من يستشعر غصة فى الحلق بسبب ما وقع عليه من ظلم وجور على حقه المعلوم. تشعر بالشفقة على الإنسان حين يحارب أخاه الإنسان بسلاح الجحود والنكران وضحالة الحجة وغياب العقل والمنطق، وتحقيق انتصارات زائلة هى أقرب إلى أم المعارك الخاسرة، وهو يعلم فى قرارة نفسه أنه ظالم جهول.
اتصل بى أحد أصدقاء العمر ممن جمعتنى به صداقة لعقود، رغم الأسفار والعيش خارج الأوطان، واستشعرت من صوته حزناً لم أعهده من قبل وتَقطُّعاً فى كلماته وكأنه خرج للتو من موقف صادم. بادرته: يا صديق العمر الوفىّ أشعر أن اتصالك خلفه خطْب جَلل، خاصة أننا على تواصل مستمر لسنوات؛ صمت لثوانٍ ثم أعاد لى السؤال بطريقته المعهودة: «ماذا تقول إن وقفت أمام مغتصب لحقك، ظالم وجائر، لكنه يتحدث معك بكل كلمات الود والاحترام ويستحضر من الآيات والحِكَم والأمثال ما يجعلك تلوذ بصمتك وتتشكك فى عقلك وتظن أنك الظالم ولست المظلوم؟».
استرسل صديقى فى «غصته»، قائلاً: منذ نحو ثلاثة أعوام جاءنى أحد الأقرباء وتكاد تتقطر عيناه دمعاً من تحديات الحياة وحاجته الماسة إلى مبلغ من المال، فلم أتردد فى إقراضه ما يفوق حاجته وبالعملة الأجنبية، ثم تكرر المشهد أكثر من مرة وواصلت الإقراض بنفس العملة، حتى ترصد لى فى ذمته مبلغ، والمقترض بكل رقى آنذاك حرر إيصالات أمانة بالمبالغ، وتعهد برد ما فى ذمته، بما فى ذلك أنه فى حالة وفاته يقوم الورثة بالسداد وبأن الله خير الشاهدين. ومن يقرأ ما حررته يداه يُدرك أن من كتب ووقع هذه الإيصالات هو من الأولياء الصالحين وأنصار الحق المبين.
قاطعته، يا صديقى الجميل، إذن ما الخطب الذى جعل صوتك يكتسيه هذا الحزن الدفين الذى لم أعهده فيك طيلة رحلة صداقتنا، فأجاب بأسى: الخطب يا صديقى أن هذا الورِع الزاهد، أعاد لى ما اقترضه ولكن بالجنيه المصرى!! وهذا معناه أنه قرر خصم أكثر من 50% من أصل الدين دون وجه حق!! وأننى بدلاً من أن أنال ما أستحقه من الشكر والثناء، كان الجزاء هو الرد بما يساوى الجنيه المصرى برغم تعهده بإعادة المبالغ التى اقترضها وليس ما يساويها من عملات أخرى!!
ويختتم صديقى بتنهد أليم وقلب حزين: أليس هذا خطباً جللاً وأمراً عجباً وظلماً بائناً فى أكل حقوق الناس بالباطل؟
قلت: يا صديقى، أختلف معك كل الاختلاف. ما فعله المقترض يستحق عليه درع تكريم وشهادة تقدير، فالرجل اعترف بدينه وجاءك يسعى للسداد دون حاجتك لساحات القضاء، واجتهد فى الوفاء بالدين بعملة مصرية ولم يعاملك بالريال الإيرانى أو الشلن الصومالى!! ولهذا كُن حامداً شاكراً لا جَحوداً ناكراً. يا صديقى هناك من يقترضون ثم يقولون لك: أمهلنا حتى نموت!! وآخرون ما إن يقترضوا منك حتى يقاطعوك وتصبح فى حياتهم غير مرغوب وعلى لسانهم مذموماً، لأنك تملك الكثير ولا تُقرض إلا القليل!!
يا صديقى هون على نفسك، فقد وهبك الخالق الكثير من النعم أهمها العطاء بقلب سليم، وعملك مدون فى سجل محفوظ وموثق عند رب عظيم لا يغفل ولا ينام اسمه الحكم العدل، والحق عنده معلوم بينما عند البشر مجهول أو معدوم ويحتمل عدة وجوه. يا صديقى اجعل توقعاتك من الآخرين ما دون الصفر تعِش عيشة السعداء بعيداً عن حلبة الكانزين للمال واللاهثين خلف السراب والأوهام.