21 مايو 2009.. زي انهاردة منذ 9 أعوام، كنت في السابعة عشر من عمري، طالبة ترقص فرحًا وابتهاجًا على صفحات مناهج الثانوية العامة، تسهر ليلًا على طاولة تحمل الأوراق والمذكرات إلى جانبها علب الألوان وأدوات الرسم، ويزاحمهم الراديو يذيع فترات صباحية لـ"كوكب الشرق" أم كلثوم.
كنت أحب الحياة كثيرًا حتى هذا اليوم، عنده توقفت الحياة وانطفأ الراديو وانكبت علب الألوان في صناديق القمامة، ونزع الشعور بالأمان والحنان وكل شيء جميل، لأنه يوم يحمل الذكرى الأفجع على قلبي -يوم رحيل والدي- والذي عاد يومها من عمله وتبدو عليه علامات الإرهاق والإجهاد، ولكنه كعادته كان صبورا وحمولا، فأخفى علينا ألمه وأن موعده قد اقترب، واكتفى بأن دخل إلى غرفته ليرتاح قليلا. وبالفعل غمضت عيناه اللامعتان، واستفاق ليلًا مبتهجًا كطفل لبى إخوته دعوته لهم بالحضور مساء والسهر معه في بيتنا.
جاء إخوته وبالفعل سهرنا ولعبنا "الطاولة" وأكلنا الكثير من الفاكهة والحلوى وسط ضحكاته المتتالية، كان البيت يشبه المسرح يضيؤه حضوره الجذاب ومناقشاته المرحة ويزينه البهجة والترحيب بإخوته وأبنائهم، كانت ليلة تشبه ليالي الأنس والفرح بالنسبة لهم، أما أنا فكانت بالنسبة لي تشبه "مراسم الوداع".
وفي الواحدة بعد منتصف الليل، عاد كل ضيف وغالِ إلى منزله، ودخلت أنا بفعل القدر وحده في نوم عميق خلال دقائق معدودة وسبحت بإدراكي بعيدًا، لأفيق بعد أقل من ساعة واحدة وأجد كل شيء في مكانه إلا أبي العزيز، وكأنه رفض أن تمر ليلة الوداع بسلام دون أن يتوجها برحيله عنا، وشعرت حينها أن أبي خدعني لأول مرة في حياتي.. خدعني عندما تركني أذهب إلى نومي ليذهب هو بروحه بعيدًا عني، للتتبدل الفرحة إلى حزن يشبه السهم يخترق القلب ويأبى ألا يُنزع منه إلى الأبد.. وتنطفئ الأنوار.. وتتبدل أنغام أم كلثوم إلى صوت المقرئ الشيخ أحمد العجمي ليأخذ والدي إلى مرقده الأخير في الأرض، وإن ظل يرقد بداخلي وقلبي إلى يوم الدين.