توقفت منتبهًا حينما مررت صدفة أمام المكان الذي شهد اللقاء الأخير.. قبل شهر كنّا هنا.. مقهى وسط البلد الذي نتودد إليه.. على الطاولة المعتادة نجلس.. نطلب شرابنا المُحبب.. ونتداول الحديث.. هذه المرة.. التقت عينانا أكثر من كلماتنا.. تسلّل إليّ نفسها فأهداني ألمًا ووحشة بدلًا من أنس وبهجة كنت أرنو إليهما..
اللحظات تمر أمامي رمادية قاتمة.. وضجيج رواد المقهى أضحى دوارًا ينخر عقلي.. والصخب الدائر حولي غدا نملًا كثيفًا يمشي على أوتار أعصابي.. الأرض غير الأرض.. والسماء غير السماء.. والمقهى غير المقهى..
الوقت يتآكل والقلق يزداد.. وصداع يداهمني فجأة.. خطا خيالي يهيم في ما يدور في عقلها.. قرأت ما تخفيه عينيها الملبدة بدموع الارتباك.. وباح ليّ عطرها الندي بما تخفيه بين ثناياها.. مشاعري مضطربة بين الأمل والخوف.. أمل في الاستمرار وخوف من اللقاء الأخير.. نعم اللقاء الأخير.. لعلني قرأت كثيرًا عن تلك اللحظات وعشتها من قبل.. لكنّ المرة هاته.. انطفأت الشمس فيها.. وأطبقت السماء طياتها، ورحلت نجومها وقمرها عنيّ.. فسلبت طاقتي وروحي..
بدأت كلامها إليّ فانخفضت درجة ارتفاع الأصوات المتداخلة إلى تحت الصفر.. عمّ السكون المكان، وتسمّر الجميع، وتوقفت الساعة عند الخامسة عصرًا وبضع دقائق وثوانٍ، اختفت شمس السماء المتهدلة، وانثنت حرارتها عنّا.. وأضحى الجو باردًا من أثر حديثها.. تنهدت وتنفست الصعداء ثم رمت ما في جوفها قبل أن تداري خجلها المعهود.. بدا الشجن والحُزن عليها.. بينما رسمتها المرآة المقابلة لمائدتنا على الناحية الأخرى بصورة مغايرة: فتاة مكسورة ترضى وتستكين.. لا تحارب ولا تحطم أصنامًا..
كان حديثها ألسنة لهب تتصارع داخل قلب ارتمى جثة هامدة تحتضر في سكون، كخيط دخان يتصاعد من سيجارة تحترق.. قالت كما يردد العاديون الكلمات التي نستدعيها لتخفيف الألم: "قضاء وقدر، هكذا الدنيا".. "لم يعد بوسعنا أن نلتقي ثانية......"، كانت تقول، أدركت أنها محقة بعض الشيء ومخطئة في الوقت ذاته..
"العاشقون لا يعرفون هذه الكلمات.. والعارفون الغارقون في هيام الحُب لا يؤمنون إلا بالحب لا غيره، كم من قصة حب صارعت من أجل البقاء، وأبحرت ضد التيار"، قُلت لها.. لكنّها داست على زناد كلاماتها راجفة من أثر الفعل ورده، وأطلقت رصاصة تحولت معها مقهى وسط البلد إلى كوخ حزن.. ورواده إلى شياطين نحس.. واصطبغ وجهي بألوان الألم والحزن.. واخترق فؤادي جُرح عميق..
وقبل أن أتململ وأحدق في عينيها بقوة كأنني أودعها، أخرجت من حقيبتها "ساعة يد"، أهدتني إياها.. تضامنت هديتها معي وتوقفت عقاربها عن الخامسة مساء.. كأن الحياة توقفت والطاقة نفذت.. حتى الهواء الذي يحمل أنفاسها إليّ توقف..
قطعت أجواء اللقاء الأخير الخرساء، قطة كانت تلهو مع الخُضرة وتجري بين أرجل الطاولة، وقبل أن نُغير كلامنا إلى حديث عابر استعرت كلمات نزار قباني:
فأنتِ حبيبة قلبي على أي حال..
سأفرض أني تصرفت مثل جميع الرجال
ببعض الخشونة..
وبعض الغرور..
فهل ذاك يكفي لقطع جميع الجسور؟
وإحراق كل الشجر..
أنا لا أحاول رد القضاء ورد القدر..
ولكنني أشعر الآن..
أن اقتلاعك من عصب القلب صعبٌ..
وإعدام حبك صعبٌ..
وعشقك صعبٌ
وكرهك صعبٌ..
وقتلك حلمٌ بعيد المنال..