الشوارع هادئة، الجميع يستعد لصلاة الجمعة، ازدحام الأحد والإثنين اختفى، ومقاعد المترو شاغرة على غير عادة باقي الأيام التي تتمنى أن تجد سنتميترات قليلة تطأ فيها قدمك فقط لتتكفل أنت بباقي جسدك، وما يجعلني أتغاضى الآن عن تلك السيدة الثرثارة في التليفون، أني منهمكة مع باتمان الذي يصارع الموت في حفرة يحاول الخروج منها لإنقاذ مدينته من ذلك المجرم "بين".
سرحت لثوانِ عن الفيلم الذي يشغل طريقي؟ لأفكر.. لماذا تلك الإحباطات من الأمور التي لا نتوقع أن تكون خيبة أملنا؟ لماذا خيبت "ميراندا تايت" أمل "بروس واين" وسعيها لتحطيم باتمان؟ لماذا لم تهاتفني صديقتي وأنا أنتظرها منذ بضعة أيام؟ ولما لم يسر أمس كعادة "الجمعة" ضاربا بتوقعاتي الحائط؟ فعلى عكس تيقني بيوم خفيف.. استقبلتني أخبار "إطلاق نار على أتوبيس أقباط بالمنيا"، حسنا ما زالت الريح تأتي بما لا تشتهي السفن، على الرغم من إنها لم تعد تشته في الواقع.
فقد باتمان شغفه بالحياة بعد موت حبيبته، واختار اعتزال العالم لسنوات فاقدا شهيته بعدما خلّص مدينته من جنون الجوكر، وعندما عاد من جديد خيبت آماله فتاة ظن أنها الشعلة التي أنارت داخله بعد سنوات ظلمة طويلة، ولكن عندما طعنت السكين في جنبه محاولة قتله واكتشف أنها من أرادت تحطيمه وإذلاله وتعذيبه، وهي التي كان يحاربها طوال الوقت دون أن يدري، لم يتعرض لنفس تأثير الصدمة التي كان ينبغي أن يتعرض لها في مثل هذا الموقف، بل تجاوز الموقف بسرعة لا تذكر وهمّ ينقذ مدينته، كما هو الحال معي في هذا الموقف، وربما معك وغيرنا كثيرين.
لم يثر حادث المنيا بقسوته حزنا وألما في نفسي، تلقيت الخبر كغيره من مئات الأخبار التي نتعرض لها يوميا، وكأن دماء لم تسل أو أرواح لما تقتل بدم بارد، فقط علمت أنه سيكون يوم عمل شاق، انتظرت حزن وبكاء وانفعال وغضب ودموع، ساعة بعد أخرى ولم أجد ما توقعت، أين تلك المشاعر التي تظهر في موقف مثل هذا؟ لا أعلم، عشرات الضحايا وصور لجثث أطفال كانت تضحك قبل أن تغتال ومكالمات لأهالي تنهار صريخا وبكاء، يحيط بي حزن فارضا نفسه وأنا كما أنا، لا أتأثر لا أشعر ولا أهتم، فقط "ربنا يصبرهم ويعزيهم" هي كل ما استطعت أن أخرجه مني.
لا أعرف كيف وصلت لهذه المرحلة، لكني بالفعل أصبحت فيها، لا أدري أي حادث قد فقدت فيه آخر طاقة من المشاعر والمشاركة ولا أهتم بالفعل أن أتذكر، لكني أرفض تماما التعازي لي لمجرد أن من ماتوا أقباطا مثلي، الحزن يا صديقي لا يعرف أديانا، الحزن يصيبنا جميعا ويتسبب في برودة قلوبنا وأرواحنا كمدينة جوثام ولا تستطيع حينها حرارة إيمان بمثل حبة خردل أن تذيبها، ولا تشفع لها أبواب السماء التي استقبلت الشهداء أمس كما يصبّر البعض أنفسهم، أصبحوا في واد وأنت في واد، بعدما كان لديك من الأمل والحماسة ما يكفي لتحرق المدينة وتعمر غيرها وتوقف هذا الزمن لتحلم بزمن ألطف، ولكن حجر الساعة قد تعطل.
لم تعد بلادي كما هي منذ سنوات، ولم يعد يهمني أن تعود أو ينصلح حالها، لا يشغل بالي حربها مع الإرهاب، ولم أعد أتفاجأ من أي حوادث إرهابية مهما كانت بشاعتها وازدياد أرقام ضحاياها، لا يشغلني لون وجنسية وجنس المتضررين، العالم كله أصبح كمصرف صحي قبيح وبالوعة وطني أكثر قبحا، ربما تسبب في ذلك رتابة الأمور وتوقع الأسوأ وتكرار وقوعها واستمرار تعرضنا لمثل هذه المواقف، فاعتدنا الأمر واحترفت الـ"عادي"، ولكن كل ما أخشاه الآن أن أعود أشعر بكل ما فقدته هذا عندما يمس الحزن من أحبهم وأعرفهم، ولا أتجاهل الأخبار عندما تتضمن اسما لصديق أو قريب، رعب أن تكون أنت الخبر.
رأيت أقباطا يعزون أنفسهم قبل ذويهم قائلين "كانوا رايحين دير الأنبا صموئيل، دلوقتي الأنبا صموئيل هيستقبلهم في السما"، وأتذكر كيف انتظر أهل جوثام عودة باتمان ثماني سنوات، ينظرون إلى السماء آملين أن يروا علامة عودته المضيئة، ثماني سنوات خيّب باتمان أملهم حتى عاد في النهاية وأنقذهم من هلاك محقق، ينتظر الأقباط بإيمان مثلهم عدالة السماء بعد أن خيبت عدالة بلادهم آمالهم، وبعد أن صاروا غرباء في وطنهم، ينتظرون باتمانا يعيد لهم الطمآنينة والأمان في شوارعهم النائية التي لم يظنوا لحظة أنها ستكون محل اهتمام العالم بالقتل والدم والكره والخوف، وأنا أنتظر معهم، أن يعود باتمان يذيب جليد المدينة الباردة.