نحن الآن أمام كتاب أكثر من رائع، لأن مؤلفه هو أيضاً أكثر من رائع، ما إن تتلامس أنامله مع موقع إلا ويتفوق فيه متميزاً عن الآخرين. فى الطب أصبح عالماً مرموقاً على مستوى العالم، ولأنه أحب مصر تلامس مع تاريخها طولاً وعرضاً وعمقاً فوصل إلى أعماق تاريخها متميزاً فى علم المصريات، وفى العمق المصرى كانت العقائد والمعتقدات التى تجسدت آلهة وتماثيل وبرديات وصروحاً معمارية فإذا به يتلامس معها ليعرف وليمنحنا القدرة أن نعرف تداخلاتها مع العقائد والديانات السائدة الآن.. طبعاً عرفتموه، هو الدكتور وسيم السيسى. وفى هذا الكتاب الأكثر من رائع يقدم لنا تركيبة بالغة الدقة وبالغة المهارة أعدها بقدراته المعملية الراقية لتصبح مزيجاً مبهراً من ذلك كله، بحيث تقرأ فتحلق فى الفضاء ولا تدرى إن كنت تتلامس مع التاريخ أم مع الحاضر أم المستقبل، أم تقرأ فى البرديات أو نقوش المعابد أم فى التوراة أم كتب الديانات السماوية، إنها كتابة تمتزج فيها تراتيل كهنة آمون مع أذان المساجد وأجراس الكنائس.. باختصار هو كتاب يجب أن تقرأه بأكمله أما تلخيصه فمستحيل وليس أمامى سوى أن أقدم بعضاً من نصوصه لتجد نفسك فى حيرة فهى تصلح أن تنقش على أعمدة الكرنك وأن تدرس فى أروقة الأزهر وفى المعهد الإكليركى وحتى فى ترانيم مختلف المعتقدات.. ولنقرأ:
■ كان أجدادنا العظماء فى صلواتهم يقولون: لم ألحق ضرراً بإنسان. لم أتسبب فى دموع إنسان، لم أكن سبباً فى شقاء حيوان لم أعذب نباتاً بأن نسيت أن أسقيه ماء (ص9).
كان ذلك رداً على ادعاء أن الفراعنة كانوا يفرضون السخرة على شعبهم فى بناء الأهرامات والمعابد. وينفى السيسى أن الفراعنة كانوا عباد أوثان فالذين يقولون ذلك لا يعرفون أن كلمات: دين، صوم، وضوء، حج، ماعون، حساب، موت، كعبة، براق... كلها كلمات مصرية قديمة، وأنهم كانوا يتوضأون قبل الصلاة وكانوا يسجدون فى صلواتهم» (ص10).
■ ويمضى: عندما نفضت المحروسة غبار القهر والذل وهبّت لطرد المجرم البريطانى، لجأ إلى لعبة قذرة اسمها «فرق تسد» وأتوا برجل من أصل مغربى اسمه حسن الساعاتى (والد حسن البنا) وأعطوه 500 جنيه (تساوى أكثر من مليون الآن) ونفذ ما أمروه به فوضع علامة القسمة الشريرة لتقسيم المصريين (ص13).
■ ويقول: «مصر تصرخ وتستغيث.. أين أنتم يا أبنائى.. أفيقوا يا أيها المسئولون بلا مسئولية.. افتحوا التليفزيون والصحافة لمن يخافون على وطنهم.. كل يوم يقطعون من أوصالى عضواً وأنتم تتفرجون.. لماذا أنتم خائفون؟ لا تتركونى وحدى» (ص14).
■ ويقول: «قلت نحن مصريون نتحدث العربية. فإذا كنا عرباً حقاً فلماذا هناك الكفيل ولماذا دخولنا من باب الأجانب فى المطارات العربية» (ص17).
■ ثم: «الشىء الوحيد الذى يجمعنا هو الأرض.. الهوية المصرية».
■ ثم ينشد: «كل مصرى ينادى أنا ملك لبلادى» (ص19). ونواصل: قلت لأحمس يا من جمعت مصر كلها حولك هل صحيح أن الهكسوس كانوا يهوداً كما يدعى المؤرخ اليهودى يوسيفوس؟ فأجاب «إنها ادعاءات كاذبة مثل ادعاءات بنائهم للأهرام. صحيح أن اليهود كانوا موجودين أيام الهكسوس لكنهم خانوا مصر وانضموا لأعدائها لذا طردنا معظمهم مع الهكسوس وقضى مرنبتاح ابن رمسيس الثانى على بقيتهم»، وجاء ذكرهم فى لوحات «أتريب»، ونصه: «إن إسرائيل خربت وقطعت بذرتها وأضحت فلسطين أرملة لمصر»، وشعراً: «نحن شعب حكم الدنيا وساد/ ونما والدهر فى المهد صغير» (ص23).
■ ويواصل وسيم السيسى: «كثير من الباحثين خصوصاً علماء يهود ينكرون صحة التوراة ويرون أنها مؤلفة ومأخوذة من حضارات أخرى قبلها وحولها فمزامير داود من أناشيد إخناتون، وقصة يوسف من قصة الأخوين المصرية، وسفر الأمثال من حكم بتاح حتب، ونشيد الإنشاد من طقوس الجنس المقدس عند السومريين» (ص30).
■ ونُواصل مع د.وسيم: قال صاحبى لست أدرى لماذا لم يخترنا الله شعباً مختاراً؟ قلت اقرأ ما تركه لنا الحكيم بتاح حتب (الأسرة الخامسة) فهو يقول «إذا كنت رجلاً حكيماً وأنت تبنى أسرة.. أحب زوجتك، واملأ قلبها فرحاً. وأنعش نفسها بحديثك العذب. إنها تستحق أن ترعاها، املأ معدتها بأحسن الطعام، وغطى جسدها بأرقى الثياب وأهدها أفضل العطور وزيّن عنقها بالمجوهرات وبهذا ستعيش سعيداً إلى الأبد». ويقارن ذلك بكلمات أناس يزعمون أنهم شعب الله المختار ويقولون «اللهم أحمدك أن خلقتنى إنساناً وليس حيواناً.. رجلاً وليس امرأة»، أى إنهم يضعون المرأة فى مرتبة الحيوان، بل هم يعتبرون أن الأم تبقى نجسة 40 يوماً إذا أنجبت ذكراً ونجسة 80 يوماً إذا أنجبت أنثى.. فأى مهانة وعار تلحق بالمرأة (ص34).
* ثم نقرأ: طلب منى الحكيم آنى (الأسرة 18) أن نزور أحد أديرة الراهبات.. عرف «آنى» أنهن لا يتزوجن ولكنه تعجب من الحجاب الذى فوق رؤوسهن وسأل لماذا؟ قلت كل إنسان حر فى اختيار الزى الذى يرتديه، ثم إن الحجاب ليس خاصاً بنا فقد كان عادة عند كل الأمم ثم تلاشى مع التقدم.. فقد لبس الحجاب نساء اليونان ومسيحيات إسبانيا، قال إنى أعرف ذلك ولكن لماذا؟ فرد أحدنا «خوفاً من الفتنة حتى لا يفتن الرجال بالنساء فيقعوا فى الخطيئة.. وفكر آنى طويلاً ثم قال «المرأة ليست عورة والرجال ليسوا ذئاباً، وعلى من يخشى الفتنة أن يرجع إلى نفسه ويقوّم طباعها أليس فى القرآن الكريم «قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون»؟
ثم لماذا لم يؤمر الرجال ومنهم من يتمتع بالوسامة بتغطية وجوههم هل لأن النساء أقوى عزيمة من الرجال؟ (ص48).
وهكذا... وكلما مضينا مع صفحات «هذه هى مصر» نكتشف أن وسيم السيسى يقول كل شىء، وإنما فى إطار جامع شامل يعلمك التاريخ قديمه وحديثه ويلقنك الحكمة ويدعوك إلى وليمة من العقل والحرية والتقدم ومحبة الوطن فى وقت واحد.
شكراً د.وسيم.. وننتظر المزيد؛ فنحن بحاجة إليك، وإلى فكرك وعلمك ومحبتك لمصر تاريخاً وحاضراً ومستقبلاً.