كلنا نعلم أننا «لسنا بخير اجتماعياً»، وأن أنواعاً من «الاعوجاجات السلوكية»، وإن شئنا الصدق «الانحرافات»، صارت أشبه «بالطفح» المنفّر المنذر بكل صنوف الأخطار. المشكلة أن المسألة دخلت فى طور «التعود».. الاغتصاب حتى فى القرى، المخدرات فى قلب شوارع الأحياء، السنج والمطاوى فى المدارس الإعدادية. العدد ونوعية هذه الانحرافات يؤكدان أننا «اجتماعياً» لسنا بخير.. لا تمر ليلة دون أن تغمرنا البرامج الليلية بالتقارير، حتى بدا الأمر وكأنها فقرات ثابتة. فى ظنى أن المجتمع أشبه بالأوانى المستطرقة، وأن الخروج عن القانون، وفكرة أن وجوهاً بارزة سياسياً واقتصادياً وإعلامياً كانت على مدى عقود فوق أى تشريع، «تستبيح» كل شىء، وتتسم ممارساتها بأنها فوق أى قانون، وتتحصّل بغير وجه على امتيازات غير معقولة، وتتكون ثرواتها على الملأ بطرق غير مشروعة، وتعتلى قمماً مالية لا تجدها فى بلد محكوم بالحد الأدنى من الشرائع. تحول الناهبون، وربما «اللصوص»، إلى أيقونات، وأسياد جدد، هذا كله كان له الأثر الأول فى الانحرافات السلوكية التى وصلت إلى حد الجرائم المتغلغلة.. نُحى القانون جانباً، وصار «النهب» هو القانون، وبقوة النفوذ كان يمكن «تستيف» أى خروج عن القانون.. بدأ من الاستيلاء على «قلب الخسة» فى كل المراكز والتعيينات، وإسنادها لمن لا يستحق، وحتى «الاستيلاء على الأراضى»، بألوف الأفدنة وألوف الكيلومترات. الناس رأت رأى العين أن «رمز الشرعية» يُغتال طوال الوقت، وبدلاً من مساءلة هذا المغتال يصبح نجماً اجتماعياً ويتصدر الواجهات، على حين يرقد الباذلون أياً كانت مهاراتهم، المتمسكون بالقواعد، ما داموا بلا نفوذ، فى قاع الفقر، وتداس كرامتهم، وتصادر كل فرصهم فى حياة تنمو أو تترقى. إذن النموذج الناجح، الذى يرفل فى نعيم الفلوس هو نموذج «المستبيح»، المستبيح لأى قاعدة، وكل واحد وشطارته.. هذا الخارج عن القانون، «مغتصب» الأرض أو الفرصة، ما الذى يفرقه عن مغتصب «فتاة».. ما الذى يميز مجرماً سطا على حرمة المال العام عن واحد سطا على عربية أو واحد خرج بسنجة على رجل أو سيدة بُغية «تثبيتها»؟ الجوهر واحد فى اجتهادى المتواضع، ولهذا لا أرانى مبالغة عندما أرى التوجه فى رئاسة الدولة يصر على استعادة ما نُهب من أراض، وتفعيل «قوة القانون»، فوق الجميع، وأضع عشر خطوط تحت كلمات «تفعيل القانون على الجميع»، أرى أن هذا لن ينحصر أثره فى حقل الاقتصاد وحده ولا حيز الشرعية وحدها، بل مع جهود صعبة لا يمكن تجاهلها، سوف ينسحب على الساحة الاجتماعية.. ولا أكون مبالغة إن ادعيت أنه سوف يساعد على «استعدال» أحوالنا الاجتماعية المائلة، أو على الأقل البدء فى إيقاف هذا الانحدار المهول الذى جرف، أى أزاح، وجرف، وحفر، الكثير من ثوابت المجتمع وقيمه. لم نكن مجتمعاً ملائكياً، وأصحاب الخبرة فى المضمار الاجتماعى علمونا وأطلعونا على ظواهر لها أسبابها، لكنا كذلك لم نكن أبداً هذا المجتمع القائم على فكرة ومنهج «الاستباحة»، بكل ما تعنيه من تبجح وفوضى وخروج عن المقتضى الإنسانى الشرعى. هل أكون خارج السياق المنطقى أو العلمى لو نظرت إلى الإصرار القوى من قبَل رئاسة الدولة على استعادة الشرعية والمكانة للقانون، وتسمية الأمور بمسمياتها، فلا يكون الجانح عن القانون «مستثمراً»، ولا «المغتصب» نجماً، على أن هذا التوجه تنتقل عدواه إلى الشق الاجتماعى، عبر مرحلتين، أولاهما أن الدولة الآن تصدّر إلى المجتمع وإلى ناسه رسالة تختلف جذرياً عما كان، وتبتر الفساد أياً كان صاحبه، وبالتالى عن قريب يتصدر المشهد آخرون يمثلون القيمة الرفيعة التى ترفعها رئاسة الدولة، ألا وهى «القانون» بكل ما يعنيه من معان وأساليب سوية لتنظيم الحياة؟ ثم هل يمكن، وبنفس الحسم الذى أظهره رئيس الدولة لتفعيل القانون، أن يتم التعامل مع الانحرافات التى تهددنا اجتماعياً وأمنياً، فلا تذهب فتاة تم الاعتداء عليها ومعها أسرتها لتحرير محضر، ومع كل ما يعنيه الموقف من انكسار، فتفاجأ بما يفوق الاغتصاب أو يوازيه عندما تعامل، عفواً، كعاهرة؟ هل يمكن أن نواجه ما فى حملات أوكار المخدرات المنتشرة صورها على الوسائط الاجتماعية فى أحياء عديدة؟ هل يمكن استعدال الإجراءات الأمنية، وتفعيلها بنفس القوة التى، إنشاء الله، سوف تستعيد بها الدولة قوة القانون، فى كارثة نهب أراضى مصر؟ أتصور أننا بحاجة إلى «رؤية» لاستعدال الأمور.. فلسنا بخير اجتماعياً.