إن وظيفة المرأة المصرية -كوظيفة كل امرأة فى وضعها الطبيعى- هى تكوين المنزل وتنشئة الطفل.. وبالتالى إنشاء المجتمع فى صورته المصغرة.. الأسرة.. ولست أدرى أن هناك تبعة أعظم من تبعة المرأة فى هذا الوضع الجميل، ولا أستطيع أن أتصور وظيفة أخطر من هذه الوظيفة، أو خطأ أشد من خطأ الذين يتجاهلونها ويحاولون إلباس المرأة ثوب الرجل، بعقيدة أنهم يرفعون منزلتها حينئذ، وينصفونها من الغبن الذى يتوهمون، إلا إذا كان غبناً أن يؤدى الحى وظيفته كاملة فى الحياة ويقوم بأعباء جنسه غير منقوصة.. هذا ليس رأيى فى الغرض من وجود المرأة على الأرض، الذى يحصرها فى حفظ النوع وامتداد الحياة.. ولكنه رأى «سيد قطب» الذى نشره فى كتابه.. «المجتمع المصرى.. جذوره وآفاقه» حيث يشعر بإشفاق عظيم كلما رأى واحدة من هؤلاء الشاردات عن جنسهن اللواتى لم يتهيأن لمستقبلهن الزوجى إلا بأبعد المواد الثقافية عن هذا المستقبل.. ويقول «ليس الذنب فى ذلك ذنبهن إنما هى خطيئة الرجل وخطيئة المناهج الثقافية.. بل هى خطيئة الدوار الذى أصابنا وأصاب العالم عقب الحرب العظمى فجعلنا نهتف بصيحات لا نعقلها ولا نقدر مداها عن حرية المرأة ومساواة الجنسين دون أن ننظم هذه الحرية ونجعل المساواة قائمة على أساس تأدية الوظيفة الحقة لكلا الجنسين»، المدهش أن هذا الرأى الرجعى فى المرأة لا يختلف -بل يتطابق تطابقاً كاملاً فى منهجه وفحواه ومضمونه وأسلوبه- مع رأى رائد كبير من رواد الأدب والفكر فى تاريخنا الحديث هو «عباس العقاد»،- وهو أيضاً بالتالى لا يختلف عن رأى السلفيين والإخوان.. والأصوليين وشيوخ الفضائيات والظلاميين.. اللهم أنه لا يقحم الأمور الدينية والفقهية فى تدعيم منهجه، بالإضافة إلى اعتماده على الاستقراء والاستبطان، وضرب الأمثلة الحية لتوضيح وجهة نظره.. فهو يرى مثلاً فى كتبه المهمة مثل «اليوميات».. وبين «الكتب والناس» و«هذه الشجرة» وغيرها أن الفوارق بين الجنسين حقيقة لا تنقضى بانقضاء زمن من الأزمان، وليس الخطأ فى إدراك هذه الفوارق مجرد خطأ عرضى فى مسألة من المسائل العقلية.. ولكنه خطأ البداهة التى ألزم للإنسان من التفكير.. فنحن لا نتصور أن الإنسانية تشقى هذا الشقاء الذى ابتليت به اليوم لولا أنها فقدت البداهة الهادية وظهر فقدانها لها فى انحرافها بالمرأة عن مركزها الصحيح.. أى إن «العقاد» يرى أننا لا نحتقر المرأة حينما نقول إن لها وظيفة مستقلة تغنيها عن الانشغال بوظيفة الرجل فى جميع أعماله.. هذا الانحراف عن المركز الصحيح يؤكده «سيد قطب» أن الدافع هنا قد يكون مبعثه شذوذاً طبيعياً فيها وميلاً إلى الرجولة فتسير فى هذا الطريق متنازلة عن مطالبها كأنثى ورغباتها كامرأة لتفسح طريق الزوجية لغيرها ممن أعددن أنفسهن لهذا المستقبل الطبيعى فى حياة الأنثى فلا تزاحم فى وقت واحد فتى وفتاة.. ويؤكد «العقاد» أن الاختلاف بين الرجل والمرأة فى الأخلاق لا يقتضينا أن نزعم أنها أرحم منه أو أقسى وأنها أسلم منه أو أسوأ وأنها أصلح منه أو أفسد.. ولكننا نقدر الواقع حين نقول إن أخلاقها تغلب فيها.. الغريزة على الإرادة.. وإن أخلاق الرجل تغلب فيها الإرادة على الغريزة.. ومن هنا تبلغ المرأة غاية الرحمة كما تبلغ غاية القسوة مع الغريزة الغالبة عليها، ولا تزال من أجل هذا عرضة للتناقض الذى جعلها عند بعض الناس لغزاً من الألغاز.. كما أن المرأة ليست بأسلم جانباً من الرجل.. لأنها أميل منه إلى الشجار.. فربما اتفق مائة رجل على الخطب المتفاقم الجسيم ولم تتفق امرأتان على الهنة الواهية الطفيفة.. وقد أغناها عن أن تكون مجرمة بنفسها أنها تجرم بيد غيرها لأن أكثر الجرائم إنما تقع بسببها ولأجلها.. فهى تدرك ما تشاء من الجريمة دون أن تتحمل تبعاتها وقلما تقع مصيبة أو كارثة إلا كان وراءها وطر لامرأة تقضيه بيد المجرم بعيدة عما يتعرض له من العقاب.. أما الفوارق العقلية بين الجنسين.. فمن المكابرات التى لا يفهم لها معنى أن يقال إن هذه الفوارق لم تثبت بعد، لأن المرأة كان محجوراً عليها فى القرون الماضية فإن الحجر نفسه دليل على التفوق.. وهيهات أن يتفق جميع الرجال أن يحجروا على جميع النساء لو لم يكن بينهما فارق فى قوة العقل والجسد.. ويرى «العقاد» أن المرأة لا تبتدع فى صناعة من الصناعات أو فى فن من الفنون وإن طال عملها فيه.. فإذا شاركها الرجل فى الطهى أو الحياكة أو التزيين والتجميل وهى صناعتها التى داومت على مزاولتها مئات الأحقاب كان له السبق بالتجويد واستطاع فى هذه الصناعات نفسها أن يستأثر بإقبال المرأة وثقتها دون أن ينافسه فيها النساء.. ومنذ القدم كانت المرأة تنوح وتبكى وتطيل الرثاء والحداد على الأموات ولكنها لم تنظم فى الرثاء قصيدة واحدة تضارع قصائد الفحول من الشعراء..
ويؤكد «العقاد» أن الرجل كائن أخلاقى، أما المرأة فهى كائن طبيعى يجرى على حكم البيئة الطبيعية.. وليس لها أخلاق بل عادات وشعائر وأحكام.. وأنها ما خلقت فيما مضى.. ولن تخلق بعد اليوم قانوناً خلقياً أو نخوة أدبية تدين لها وتصبر عليها غير ذلك القانون الذى تتلقاه من الرجل.. وتلك النخوة التى تسرى إليه من عقيدته.. ولو ظهرت فى الأرض نبية بمعزل عن دعوة الرجال ما آمنت بها امرأة واحدة.. ولا وجدت لها فى طبيعة الأنثى صدى يلبيها إذا دعت إلى التصديق والإيمان.. وإنما المرأة تؤمن بالرجل حين تؤمن بالنبى وبالإله.. والغريب أن هذه النظرة العنصرية للمرأة لم تمنع «العقاد» أن يقول بعد انتهاء علاقته بـ«سارة» أنه يحس إحساساً شديداً أن توديع هذه العاطفة يرادف فى معناه توديع الحياة.. كما لم تمنعه هذه النظرة العنصرية من أن يهيم غراماً بالأديبة اللبنانية المعروفة «مى زيادة» وهى تعتبر من زعيمات الحركة النسائية المطالبات بمساواة المرأة بالرجل فى جميع أمور الحياة.. السافرة فى عصر الحجاب.. بل إنه ألح عليها إلحاحاً شديداً فى الزواج بها رغم اختلافهما فى الدين.. ولما تأكدت من شكوكها بخيانته لها مع «سارة» حينما اتصلت به تليفونياً بمنزله فردت عليها «سارة».. ردت إليه «مى» خطاباته العاطفية إليها.. منهية علاقتها به.. فبكى وهم أن يقبل يدها طالباً المغفرة.. لكنها أبت ذلك وانسحبت من حياته.. ثم وقف أمام قبرها بعد موتها يبكى وينتحب ويتلو قصيدته الخالدة فى رثائها.
وفى النهاية فإننا إذا قلنا إن هناك نوعين من أعداء المرأة فى بلادنا.. النوع الأول هو المكفرون والظلاميون من الإخوان والسلفيين وفقهاء التحريم والتجريم الذين ما زالوا يواصلون رسالتهم المقدسة بتكفير وازدراء المرأة واعتبارها عورة من رأسها إلى أخمص قدميها.. ويسعون لحرمانها من حقها فى التعليم والعمل وما زالوا يروجون لزواج القاصرات ومشروعية الختان.. وهناك أيضاً نوع آخر من أعداء المرأة من الأدباء والمفكرين فى الماضى والحاضر.. والأسماء الشهيرة تشمل «توفيق الحكيم» و«عباس العقاد» و«أنيس منصور» و«أحمد رجب» وهى عداوة لا تستهدف إلا جذب اهتمام النساء وإثارة فضولهن لقراءة أعمال الكاتب الذى يناصبهن العداء.. أما الآن فإن أعداء المرأة شرسون.. عداوتهم نابعة من نظرة عنصرية بغيضة ترى أن الطبيعة حبت الرجل بمميزات تجعله أفضل من المرأة.. وبناء عليه فإن عداوة بعض الأدباء للمرأة كانت عداوة من النوع الرقيق المسالم.. فهل ينطبق مثل هذا الكلام على «العقاد» أم أن تلك العداوة هى محصلة رؤيته الفكرية وقناعاته الثقافية وتجاربه الإنسانية وآرائه التى تحمل تصوراً عنصرياً.. والتى تستبعد أن تكون مجرد مداعبة رقيقة مسالمة تنتج أدباً مشاكساً ساخراً.. ؟!