وانتظرته عاماً كاملاً بلهفة وشوق وأحاسيس نادرة تجتاحنى كلما تذكرت هلته الروحانية علينا، انتظرت أن تملأ روائحه الجميلة رئتى وأنفى، ليس هذا فقط بل ومنزلى وملابسى، انتظرت رائحة بخور العود والصندل تخرج من المسجد المجاور ورائحة الأرز بالزعفران والقطر بماء الورد مع الحلوى والمياه التى تروى العطش بماء الزهر ومكالمات الأهل والأحبة للتهنئة والاتفاق على مواعيد اللقاء ودعوات الإفطار والسحور والليالى الرمضانية المصرية الغنية بالطرب والتراث الشعبى القديم، وقبل أن أنير الأضواء بساعات فوجئت برائحة الدماء تملأ هواء مصر، وأنين الجرحى وأصوات الاستغاثات تنطلق من أرض الجنوب أرض الشهامة والطيبة والرجولة، فقد حطمت الخيانة والغدر والقسوة كل مظاهر الانتظار، وانطلقت أصوات عربات الإسعاف لتروع الجميع، وتغيرت خرائط شاشات التليفزيون ومحطات الإذاعة، واتشح الجميع بالسواد، بأى حق قام هؤلاء بتغيير خريطتنا من أغانى محمد فوزى (هاتوا الفوانيس ياولاد ها نزف عريس ياولاد هيكون فرحه ٣٠ ليلة)، ومحمد رشدى (يا بركة رمضان خليكى فى الدار) وعبد العزيز محمود (مرحب شهر الصوم مرحب) إلى بث مباشر من موقع الحادث، وقائمة بأسماء الشهداء وأخرى للجرحى وشهادات للوفاة وثلاجات الموتى فى المستشفيات والجثث المجهولة وصورة للأيتام الثلاثة الذين فقدوا كل ذويهم فى لحظة غدر وكراهية للإنسانية، ووزيرة الشئون الاجتماعية تقدم العزاء وتعد بالتعويضات والمعاشات الاستثنائية، والمحافظ وكبار رجال الدولة وعلى رأسهم رئيس الوزراء يتوافدون على المحافظة للمواساة وتقديم العون اللازم.
بأى حق يأتى رمضان دون الاحتفال السنوى برؤية الهلال ويدعو الرئيس لاجتماع أمنى مع مسئولى الدولة بدلاً من تبادل برقيات التهانى، ويطالب النائب العام بفتح تحقيق عاجل فى الهجوم الإرهابى ويزور موقع الحادث، وهو الذى كان من المفروض أن يحضر احتفال دار الإفتاء فى مشيخة الأزهر ويجلس فى المقدمة.
وفى العالم كله كان تغيير جداول الأعمال بسبب رعونة وقسوة الإرهاب، فقد شارك العالم بأجمعه مصر فى مصابها الأليم، فأدان مجلس الأمن ما حدث ووقف أعضاؤه دقيقة حداداً على أرواح الشهداء، وسبقته فى ذلك جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامى، التى وصفت ما حدث بأنه عمل جبان، وأعلنت (آن هيدالجو) عمدة باريس إطفاء أنوار برج إيفل، أهم معالم فرنسا السياحية وإحدى عجائب الدنيا السبع بعد خروج آخر زوار اليوم منه، حداداً على الأرواح التى أزهقت بغير حق، ونعاهم البابا فرانسيس بابا الفاتيكان برسالة تعزية للشعب المصرى، وكذلك فعل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب ونظيره الروسى فلاديمير بوتين، ولأن من قُتلوا بغير ذنب مصريون، ولأن مصر وأرض مصر كانت أول من نعاهم وبكاهم كان لا بد من الثأر، فانطلقت الطائرات المصرية ووجهت الضربات المركزة واستهدفت التنظيمات الإرهابية المدعومة من تنظيم داعش الذى أعلن مسئوليته عن الحادث.
وانتفضت قلوب أمهات وزوجات أبطال القوات الجوية المصرية قلقاً وخوفاً على ذويهم، فازداد الألم المصرى فى اليوم الذى انتظره الجميع منذ عام ليكون أولى ليالى الشهر الكريم، وانطلقت الدعوات بالسلامة والأمن والأمان لأم الدنيا ورجالها وبالرحمة والغفران للشهداء والصبر لذويهم.
ويأتى أول أيام رمضان لنشاهد على الشاشات صور الوداع للأهل والأحبة ودموع البابا كبير الكنيسة المصرية تبكى الجميع مسيحيين ومسلمين، وحكايات من نجوا من المجزرة تدمى القلوب، وكيف لا نبكى على من رحلوا وهم فى طريقهم لرحلة روحانية للدير، ذهبوا ليصلوا لله وللمسيح ،وليقضوا اليوم فى تراتيل ويتناولون طعامهم من أيدى خادمات الكنيسة ومن زراعات الدير ولحومه وعسله وفاكهته، ففى داخل تلك الأديرة يعيش الرهبان حياة كاملة فى اعتماد على ما ينتجون من خيرات الأرض، ويستقبلون زوارهم بكل كرم وترحاب، ولكن تغير مسار الرحلة دون رغبتهم ورحلوا تاركين وراءهم مصر كلها تبكيهم، وبعيداً عن دموع الفراق فان إنجيل القديس متى يقول (الأبرار يضيئون كالشمس فى ملكوت أبوهم السماوى)، ويقول (فى بيت أبى منازل كثيرة ومجد يفضّل عن مجد فى الكرامة وهؤلاء يفضلون عن كل البشر لأنهم نالوا الشهادة)، ونتذكر القرآن الكريم (ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتاً بل إحياء عند ربهم يرزقون)، لتتساوى جميع الأديان السماوية فى معانى كتبها أمام مكانة الشهداء، فلهم الجنة بإذن الله ولمصر كلها الأمن والأمان.