(١) دراسة التاريخ البعيد والقريب مسألة غاية فى الأهمية، وذلك لاستحضار الدروس والعظات والعبر التى تفيدنا فى حاضر ومستقبل الأيام، فضلاً عن معرفة أين كنا، وكيف أصبحنا؛ سواء على المستوى المحلى أو الإقليمى أو الدولى.. فى هذا المقال، سوف نعود بالذاكرة إلى يوليو من عام ٢٠٠٦، حيث وقع العدوان الصهيونى على لبنان (١٢ يوليو - ١٥ أغسطس ٢٠٠٦)، والذى جاء رداً مباشراً على عملية خطف قام بها حزب الله لجنديين «إسرائيليين».. ولا شك أن أصداء هذا العدوان قد تجاوزت حدود لبنان إلى العالم العربى والإسلامى، بل إلى العالم كله، حيث اندلعت تظاهرات فى كل مكان تندد بالعدوان والتخريب والتدمير الذى أحدثه، ناهينا عن الضحايا والجرحى والمصابين من الشعب اللبنانى.. فى مصر احتشد الإخوان بعشرات الألوف فى الجامع الأزهر، وكان على رأسهم كاتب هذه السطور وأحمد سيف الإسلام حسن البنا.. وقد شارك فى الحشد رموز من القوى السياسية والوطنية.. كما عقد مؤتمر حاشد آخر للإخوان بمقر النقابة العامة للمحامين بوسط القاهرة وكان على رأسه محمد مهدى عاكف المرشد العام، الذى أخذته الحمية وهو يخطب، فقال: إننا على استعداد لإرسال عشرة آلاف من شباب الإخوان إلى لبنان(!) لم أكن موجوداً فى هذا المؤتمر، وعندما بلغنى ما قاله «عاكف»، أخذنى الاستغراب والدهشة لما قاله، وقلت لمن أبلغنى بالخبر: هل يظن «عاكف» أنه يعيش فى صحراء، وأنه لا توجد دولة لها مؤسساتها؟ وهل هذه الآلاف العشرة مستعدة فعلاً للمشاركة فى القتال، أم سوف تكون عبئاً على لبنان؟ وبالفرض جدلاً أنهم مستعدون، فأين تدربوا، وهل كانت مؤسسات الدولة المصرية تعلم ذلك، أم أن الأمر تم بعيداً عن أعينها؟ وهل تم التحدث مع هذه المؤسسات قبل التصريح بذلك، أم أن الأمر جاء هكذا بطريقة عفوية؟ أسئلة كثيرة دارت فى رأسى فى ذلك الوقت، لكن هكذا كانت تدار الأمور على يد «عاكف» الذى كان كثيراً ما يضعنا فى حرج كبير(!)
(٢) أعتقد أنه لم يكن هناك تشاور أو تنسيق بين حزب الله والقوى السياسية والوطنية فى لبنان، فضلاً عن الجيش اللبنانى ذاته قبل عملية اختطاف الجنديين «الإسرائيليين».. لكن من المؤكد أن النظامين السورى والإيرانى لم يكونا بعيدين عن حزب الله، سواء فيما يتعلق بإمداده بالصواريخ أو بالاشتباكات التى كانت تتم فى الجنوب مع العدو الصهيونى.. عموماً، استطاع الحزب أن يكون نداً قوياً، بل موجعاً للعدو الصهيونى وذلك من خلال هجمات صواريخ (الكاتيوشا)، فى الوقت الذى فشلت فيه القيادة «الإسرائيلية» فهم دلالتها الاستراتيجية.. والحقيقة أن سكان شمال «إسرائيل» لم يكونوا مهيئين لمقاومة وابل كثيف من الصواريخ، مثل تلك التى انصبت عليهم.. فمعظم الصواريخ القصيرة المدى، سقطت فى أماكن مفتوحة وسببت أضراراً صغيرة، لكن ٢٥٪ مما يقارب الـ٤ آلاف صاروخ، التى تم إطلاقها أصابت مناطق مدنية، وأصابت «إسرائيل» بالشلل: الميناء الرئيسى، المصافى وكثيراً من المنشآت الاستراتيجية الأخرى، أكثر من مليون «إسرائيلى» سكنوا فى الملاجئ، ونحو ٣٠٠ ألف تركوا منازلهم بشكل مؤقت، وطلبوا ملاجئ فى الجنوب.. والحقيقة أن حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله اكتسب خلال هذه الحرب شعبية كبيرة على مستوى العالم العربى والإسلامى، وكان طبيعياً أن يشاهد الفتيان والفتيات يرتدون «تيشرتات» عليها صورة حسن نصر الله، بل إن صوره كانت معلقة على الجدران فى الشوارع والحوارى.. هذا فضلاً عن الروح الجهادية التى سرت فى أوساط الشباب.
(٣) وقد شكلت حكومة العدو الصهيونى لجنة برئاسة القاضى «إلياهو فينوجراد» للتحقيق فى هذه الحرب.. وقد حملت اللجنة مسئولية الفشل فيها لكل من رئيس الوزراء إيهود أولمرت، ووزير الدفاع عامير بيريتس، ورئيس الأركان دان حالوتس.. واعتبر تقرير اللجنة أن أولمرت هو المسئول عن الخروج إلى الحرب دون خطة معدة بشكل مناسب، وأنه اتخذ قرار الحرب بتسرع، ودون فحص بيئة المعركة.. كما حمله التقرير أنه لم يأخذ بعين الاعتبار إمكانية أن تؤدى عملية عسكرية ضد حزب الله، إلى قيام الحزب بقصف الجبهة الداخلية والعمق «الإسرائيلى»، وأنه لم توجد ردود عملية لـ«إسرائيل» على ذلك.. والأهم من ذلك حالة الفساد التى تكشفت تفاصيلها عقب الهزيمة «الإسرائيلية».. تقول مى قابيل، الباحثة بمركز بحوث ودراسات الشرق الأوسط (القدس، العدد ١٠٤، ٢٠٠٧): «إن عدداً من المحللين أرجعوا الفشل إلى أن الجيش «الإسرائيلى» لم يعمل على تقويم حاجاته فى الفترة السابقة على الحرب بشكل دقيق، وعدم إدراكه للاستعدادات المطلوبة، فشاؤول موفاز، الذى كان وزيراً للدفاع فيما بين نوفمبر ٢٠٠٢ ومارس ٢٠٠٦، قام بجدولة انخفاض تدريجى فى التجنيد الإلزامى للخدمة العسكرية، وأسس قانوناً جديداً يقلص مدة خدمة جنود الاحتياط وفترات التدريب.. وبحسب قائد القوات البرية «الإسرائيلية» بينى جينتس، فإن الحكومة قللت مخصصات تدريب وحدات الاحتياط بنحو ٨٠٠ مليون دولار منذ عام ٢٠٠١، وامتد تحديد موازنة الجيش الإسرائيلى إلى تقليص حجم تصنيع الدبابات؛ حيث ضغطت القيادات المسئولة عن الميزانية على الجيش الإسرائيلى من أجل وقف إنتاج دبابة الميركافا».. واستطردت مى قابيل قائلة: «فى المقابل، وبسبب الكلفة، تراجع الجيش الإسرائيلى عن تركيب منظومة «تروفى» المضادة للصواريخ على معظم الدبابات، ولم يزود سلاح الجو الإسرائيلى بقنابل مدمرة للمخابئ الحصينة، ومن ثم لم يكن الجيش الإسرائيلى فى نظر معظم الخبراء مستعداً لدخول حرب واسعة النطاق، كما لم يكن مستعداً على وجه الخصوص لمواجهات على الجبهة اللبنانية، من حيث التدريب (فعدد قليل فقط من القوات الخاصة تلقى تدريبات تحاكى العمليات فى جنوب لبنان)، أو من حيث توافر المعلومات الاستخباراتية الكافية عن هذه الجبهة، وعن أنشطة حزب الله فيها» (وللحديث بقية إن شاء الله).