لم تعان مصر عبر الدولة العباسية من اضطرابات سياسية فقط.. ولكنها فى الوقت نفسه كانت تستقبل العديد من الرموز الدينية والعلماء الذين كانوا يجدون على أرضها بيئة خصبة للتعلم.. ونشر العلم فى الوقت نفسه..! فقد شرفت مصر بقدوم سليلة رسول الله السيدة نفيسة بنت الحسن.. حتى ماتت ودفنت على أرضها.. كما استقبلت فى الوقت نفسه أحد أعلام الدين فى ذلك العصر.. وأحد أصحاب المذاهب الفقهية الأربعة لدى أهل السنة.. الإمام الشافعى!
هو أبوعبدالله محمد بن إدريس الشافعى المطَلِبى القرشى.. ثالث الأئمة الأربعة عند السنة، وصاحب المذهب الشافعى، ومؤسس علم أصول الفقه،
كان الشافعى فصيحاً شاعراً، ورامياً ماهراً، ورحّالاً مسافراً. أكثرَ العلماءُ من الثناء عليه، حتى قال فيه الإمام أحمد: «كان الشافعى كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس»، وقيل إنه هو إمامُ قريش الذى ذكره الرسول بقوله: «عالم قريش يملأ الأرض علماً». ولد الشافعى بغزة عام ١٥٠ هجرية، وانتقلت به أمُّه إلى مكة وعمره سنتان، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم أخذ يطلب العلم فى مكة حتى أُذن له بالفتوى وهو ابن دون عشرين سنة.
هاجر الشافعى إلى المدينة طلباً للعلم لدى الإمام مالك ابن أنس، ثم ارتحل إلى اليمن ثم بغداد سنة ١٨٤ هجرية.. فطلب العلم فيها عند القاضى الشيبانى.. وقام بتأليف كتاب الرسالة الذى وضع به الأساسَ لعلم أصول الفقه، حتى ارتحل إلى مصر بعد أن ضاق به العيش فى بغداد فوصلها سنة ١٩٩ هجرية.
وفى مصر، أعاد الشافعى تصنيف كتاب الرسالة الذى كتبه للمرة الأولى فى بغداد، كما أخذ ينشر مذهبه الجديد، ويجادل مخالفيه، ويعلِّم طلابَ العلم.. والتقى بالسيدة نفيسة.. وكان يزورها كثيراً لينهل من علمها.. لقد كانت مصر ملهمة للشافعى ليغير العديد من فتاواه السابقة التى أخرجها فى العراق.. الأمر الذى دعاه ليغير فى كتابه للفتوى ويعيد كتابته من جديد.. كان النسيج المصرى الخاص بين مواطنى تلك الدولة العريقة هو السبب الأساسى لذلك.. فتجدد له من العلم بالنصوص ووجوه دلالاتها ما لم يكن عنده من قبل، وضبط من الأصول والقواعد.. ولاقى من العلماء ممن استفاد منهم ما حمله على تغيير قوله فى كثير من المسائل.
ويحكى أن الإمام الشافعى أوصى أن تصلى عليه السيدة نفيسة بعد وفاته.. ويقول المؤرخون إن جنازته مرت ببيتها.. وصلت عليه تنفيذاً للوصية!
لقد توفى الإمام الشافعى بمصر فى عام ٢٠٤ هجرية.. بعد أن قضى بها خمس سنوات فقط.. ولكنه أخرج منها علماً ينهل منه الناس حتى الآن..!
وللحديث بقية ما دام فى العمر بقية!