أهالى المفقودين: عايشين على أمل إن ولادنا يرجعوا تانى حتى لو جثث.. أى حاجة من ريحتهم
أسرة عزيز لا تزال تحلم بعودته
خوذة وحزام وبدلة ميرى لا تخلو جيوبها من بضعة قروش وملاليم ضئيلة، و«جواب استدعاء» وبطاقة شخصية مهترئة، يرتدى صاحبها «حذاء ميرى» ثقيلاً، لم يتأثر أو يتغير لونه رغم مرور نصف قرن على وجوده فى صحراء سيناء، مثلما تغير جسد صاحب هذا الحذاء، إذ لم يتبق منه سوى نصف جمجمة، وعظام رقبة نحيفة تتدلى منها سلسلة معدنية نال منها الصدأ، محفور بها اسم صاحب الحذاء ورقمه العسكرى، علقها فى رقبته قبل 50 عاماً بأوامر من قادته من أجل هذا الغرض، يجيب الجسد النحيل المغطى بالرمال الصفراء الفاقع لونها سائقى آلات الحفر التى تمهد الطرق: «هل أتاك حديث الجنود الذين ضحوا بأرواحهم من أجل مصر، اغرس السيف فى جبهة الصحراء إلى أن تجيب عليك الجماجم والجثث».
نصف قرن حوّل صاحب هذا الجسد إلى مجرد ذكرى حزينة تتذكرها زوجته التى صارت أرملة من بعده تربى أطفالاً أيتاماً، تعرضوا لكافة أنواع الظلم والحرمان، «ظهرها» انكسر يوم النكسة، عندما احتلت إسرائيل شبه جزيرة سيناء وصفّت زوجها بدم بارد تحت راية الأسر، دون مقاومة أو سلاح، وبالكشف عن اسم صاحب الرفات الشهيد أثناء تنفيذ بعض المشروعات يتحول حزن أسرته العميق إلى حالة من الفرح ولسان حالهم يقول: «كفاية إنه هيندفن جنبنا عشان نقرا له الفاتحة طول ما احنا عايشين»، حينئذ فقط يتحول الشك إلى يقين، والأوهام إلى حقيقة، والأمل إلى واقع مؤلم، فقد عاد إليهم شهيدهم، لكن آلافاً آخرين لم يعودوا إلى ذويهم بعد الحرب، وصاروا مفقودين وشهداء فى السجلات العسكرية والمدنية، لكنهم عند ربهم أحياء يرزقون.
«عصام»: أبويا ما شافنيش غير 3 مرات بس فى 5 شهور واتمنيت يكون رفات شهيد الفيوم خاص به
فى قرية مليج التابعة لمركز شبين الكوم بمحافظة المنوفية والمكتظة بآلاف السكان، يعيش الكثير من السكان على أمل الكشف عن أماكن دفن رفات أقاربهم من شهداء 1967، محمد أحمد محمد البرهيمى، 50 سنة، موظف فى الإدارة الزراعية بالمنوفية، يحمل اسمين، الاسم الرسمى «محمد» واسم الشهرة «عصام»، لا يعرفه أحد فى القرية بالاسم الأول الذى سماه به جده ليكون على اسمه رغم وصية والده الشهيد قبل اندلاع الحرب: «لو جبت ولد سموه عصام»، عاش عصام مع والدته فى بيت جده لأمه بعد أن طرده جده لأبيه بعد التأكد من استشهاد والده: «جدى طرد أمى وأنا لسه طفل رضيع، كان عمرى شهور بسيطة وأبويا ما شافنيش إلا 3 مرات بس خلال 5 شهور قبل الحرب، وأمى راحت عاشت فى بيت أبوها من غير ما تاخد أى حاجة من عفشها أو أى مليم من حقوق أبويا، عشان كده طلعت ما بحبش أهل أبويا لكن لما كبرت وبقى عندى 21 سنة وصرفت المعاش اللى كان بيتحول ليا على المجلس الحسبى بالمحكمة رحت اشتريت طوب وأسمنت وبنيت شقة بالقوة فى بيت ملك عيلة أبويا، وقلت هاخد حقى وحق أبويا بالعافية، ومن ساعتها وانا عايش هنا فى وسط عيلة أبويا رغم توتر العلاقة، عشان كدا أمى رفضت تيجى تعيش معايا لحد دلوقتى».
يشير عصام إلى صورة والده المعلقة على الحائط ويقول: «أنا شبه أبويا جداً، وأنا ابنه الوحيد، وأمى رفضت تتجوز بعد استشهاده عشان تربينى وتعلمنى، طول حياتها بتساعدنى، ولحد دلوقتى بتقسم معاشها بينى وبينها عشان أقدر أصرف على عيالى الخمسة». يضيف عصام، المولود فى شهر يناير عام 1967، قائلاً بنبرة مرتفعة ممزوجة بالحزن: «لما شفت رفات شهيد حرب 1967 من كام أسبوع فى التليفزيون، قلت يا بخت أهله، كان نفسى يكون ده رفات أبويا أنا، على الأقل هتأكد إنه استشهد، أمى لحد وقت قريب كانت عايشة على أمل إنه لسه عايش وممكن يرجع تانى، عشان كده مارضيتش أوريها صورة رفات العسكرى اللى لقيوه مدفون وهما بيحفروا طريق عشان ما تعيطش، لأنها دمعتها قريبة وبتعيط لما بتتفرج على أفلام الحرب».
«جمالات»: أمى لفت على أبويا فى الصحرا لحد ما رجليها ورمت ودورت عليه كتير بدون فايدة.. واتحرمت من حنانه طول عمرى.. و«عزت»: أمى ولدتنى بعد استشهاد أبويا بـ3 شهور وأجّلوا السبوع 15 يوم على أمل رجوعه من سيناء لكنه ما رجعش.. و«سنية»: زوجى سافر سيناء قبل الحرب بأسبوعين وبعت جوابين واحد لى وواحد لأبوه وقال فى الجواب ما تخافيش أنا هارجع تانى
يتابع ابن شهيد حرب عام 1967 قائلاً: «فيه واحد من بلدنا شاف أبويا فى ساحة الحرب قبل ما طيارة إسرائيلية تضربه هو وزمايله بصاروخ من فوق، لكن بعد كام سنة من انتهاء الحرب، فيه ناس جت عندنا البيت وقالت إنها شافت أبويا فى سينا وإنه هيرجع ليلتها، لبّسونى هدوم جديدة وفضلنا فى انتظاره.. لحد نص الليل لكن ما رجعش، القصة دى رجّعت الحزن لينا من تانى بعد تجدد أمل عودته».
فى أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من طريق مدينة بركة السبع بقرية مليج، تعيش جمالات مصطفى عبدالمنعم الشتيحى، برفقة أبنائها وأحفادها. قبل اندلاع حرب 5 يونيو 1967، بأسبوعين تم استدعاء والدها للانضمام إلى صفوف الجيش بعد انتهاء مدة خدمته العسكرية بعدة أعوام وتعيينه بإدارة المساحة بشبين الكوم، ودّع زوجته وأبناءه، فتحى وجمالات وسناء، والتحق بكتيبته، لكن لم يعد إليهم مرة أخرى، وصرفت زوجته معاشاً استثنائياً من القوات المسلحة حتى تم استخراج شهادة من الجيش بأنه مفقود وشهيد فى حرب 1967.
تقول ابنته جمالات التى تبلغ من العمر 51 عاماً: «أمى كانت بتقول لنا إنها لفّت عليه لما رجليها ورمت، قعدت سنتين تدوّر عليه بدون فايدة، كانت بتقول لنا: رجلى كانت بتغرز فى الرمل من كتر المشى فى الصحراء، سيبنا بيت جدى وأمى بنت بيت على حتة أرض أبويا كان شاريها قبل ما يموت، ومحدش من أهل أبويا كان بيسأل علينا، أخوالى هما اللى كانوا واقفين جنبنا وبيسألوا على أمى على طول».
تضيف جمالات: «لما بشوف صور الشهداء اللى بيطلعوها من رمل سيناء بقول يا ريت أبويا يطلع زى الناس دى، حتى لو كان شوية عضم، لما بشوف الصور بتاعة الجنود وهما مدفونين فى الرمل بافضل أعيط طول النهار وبافتكر أبويا».
وتضيف شقيقتها سناء بنبرة منخفضة: «اتحرمت من حنان أبويا طول عمرى، ولما بشوف مسلسل فى التليفزيون فيه حاجة عن الحرب بعيّط بشكل تلقائى، أنا اتبهدلت طول عمرى عشان كنت من غير أب، يعنى لما اتجوزت كنت متبهدلة فى بيت العيلة عشان ماكانش ليا ضهر أو حد يسأل عنى، عشان كده محتفظة بصورته لحد دلوقتى وكل شوية أطلّعها أشوفها وأدقق فيها، أخويا الكبير فتحى كان شبه ابويا بالظبط لكنه الله يرحمه مات وهو عنده أقل من 50 سنة».
فى أحد أطراف قرية مليج توجد منطقة تسمى «الحصة» تبعد عن وسط القرية بنحو 1500 متر، يعيش فيها عزت عزيز كامل جرجس، صاحب الخمسين عاماً، بصحبة والدته يقول: «أبويا كان متطوع فى الجيش، وكان رتبته رقيب، لما استشهد فى حرب 67 أمى كانت حامل فيّا فى 6 شهور، وهو اللى وصاها تسمينى باسم عزت، لما اتجوز كان عمره 23 سنة وأمى كان عندها 20 سنة، اتجوزوا سنة واحدة بس، أمى ولدتنى بعد استشهاده بـ3 شهور وأجّلوا السبوع 15 يوم على أمل رجوعه من سيناء لكنه ما رجعش».
تلتقط منه والدته سنية سلامة منصور 71 سنة أطراف الحديث وتقول بصوت متهدج: «عزيز كان كل حاجة فى حياتى، وصّانى قبل ما يموت إنى لو خلفت ولد أسميه عزت ولو خلفت بنت أسميها عزة، وكان طول الوقت بينادى نفسه بأبو عزت، وكتب على النتيجة، لو ما رجعتش سميه عزت، ولما مات حاول أخوه يسمى ابنى على اسمه قلت ده موصينى أسميه عزت، سافر سيناء قبل الحرب بـ15 يوم وبعت جوابين، واحد ليا وواحد لأبوه، قال فى الجواب، ما تخافيش أنا هارجع تانى وخدى بالك من نفسك، ووصى أبوه إنه ياخد باله منى، لكن للأسف كرشونى من البيت ورحت عشت فى بيت والدى». تنخرط فى نوبة بكاء قصيرة وتتغير ملامحها قبل أن تضيف بنبرة منخفضة ممزوجة بالحزن: «أبويا قال لى أنا أولى بيكى تعالى عيشى معايا، عشان يتقفل علينا باب واحد، وربى ابنك واوعى تتجوزى عشان ابنك ما يتبهدلش، اللى هيتجوزك هيكون طمعان فى المعاش اللى بتقبضيه، ومن ساعتها وانا رفضت الجواز تماماً، رغم أن عمرى وقتها كان نحو 21 سنة، كنت لسه عيلة وفضلت الأيام تشيل وتهبد فيّا لحد ما ربيت عزت وكبر وراح المدرسة، وفى يوم من الأيام عزت دخل عليّا وهو زعلان وبيعيط وبيقول لى، العيال كلها عندها أبّهات بتروح لها المدرسة تسأل عليها أنا أبويا فين؟ الواد صعب عليا وقعدت أعيط لأنى كنت مخبية عليه الخبر لحد ما كبر وبقى عنده أكتر من 10 سنين، كنت بقول له على طول أبوك مسافر بره، لكن بعد كده عرّفته الحقيقة وقلت له ابوك مات فى الحرب».
يعقب عزت على كلام والدته: «بعد كلام أمى تغير الوضع تماماً وشعرت أننى مميز وسط كل الطلاب، لأن أبى مات شهيداً فى الحرب التى كنا نذاكرها فى الفصول ونرسمها فى حصص الرسم، حتى انتهت دراستى بالمدرسة الثانوية الصناعية، وبعد انتهاء الدراسة مكثت فترة بدون عمل وظلت والدتى تجرى هنا وهناك، وترسل خطابات إلى كل المسئولين وتقول هذا ابن شهيد ويستحق التعيين فى الحكومة، وبالفعل تم تعيينى فى هيئة نظافة وتجميل القاهرة، وظللت هناك لمدة 8 سنوات قبل نقلى للمنوفية، وقبل بلوغى سن 21 سنة استطاعت والدتى شراء قيراطين من معاشى بالمجلس الحسبى، وقدمت طلب إلى مدير المصلحة فى شبين الكوم ووافق لأنه كان واثق إن أمى خايفة على مصلحتى».
تعاود زوجة شهيد حرب 1967 حديثها مرة أخرى: «لما بشوف أفلام الحرب على التليفزيون باعيط وباقفل التليفزيون، لأنى لحد دلوقتى عايشة على أمل رجوع جوزى من سيناء، بقول لنفسى ممكن يكون مأسور أو فقد الذاكرة وهيرجع لما يفوق، عشان كده لما شفت صورة شهيد الفيوم فى التليفزيون ما قدرتش أمسك نفسى وعيطت لما شبعت وقلت لنفسى يا سلام لو كان ده عزيز، أى حاجة من ريحته تعوضنا عن فترة الغياب اللى بقالها 50 سنة».
يمر شريط الذكريات الطويل فى ذهن أم عزت سريعاً وكئيباً، بعد أن تحملت كثيراً من أجل ابنها الوحيد على مدار نصف قرن، لكن أكثر شىء أحزنها فى الفترة الأخيرة هو عدم قبول حفيدها بالكلية الحربية العام الماضى رغم لياقته البدنية وسلامته الصحية بشهادة جميع الأطباء: «حفيدى شبه جده بالظبط، وهو اللى بيفكرنى بيه، ونفسى الرئيس السيسى يوجه بقبوله السنة الجاية، دى أمنية حياتى اللى نفسى تتحقق قبل ما أموت، بأتمنى حفيدى يكمل مسيرة جده اللى عايشة على ذكراه بقالى 50 سنة».