لم يكن الأمر يتم فى الأقبية المظلمة، ولا الأضواء كانت خافتة، حتى لا نتمكن من تمييز الجالسين أو المتحدثين، بل على العكس تماماً؛ الاجتماعات تمت فى المكاتب الزجاجية الشفافة ذات الشرفات الفارهة، المطلة على حدائق مدينة «لانجلى» بولاية فيرجينيا، الممتدة حتى ضفاف نهر «بوتوماك»، هذا الموقع الذى يتوسطه المبنى المشار إليه «وكالة الاستخبارات المركزية CIA»، يبعد عن واشنطن العاصمة 15 كم. داخل أحد مكاتبها، وتحديداً بإدارة الشرق الأدنى داخل الوكالة، عقد «زبيغنيو برجينسكى»، مستشار الأمن القومى فى إدارة الرئيس «جيمى كارتر»، فى نهايات حقبة سبعينات القرن الماضى مجموعة من الاجتماعات التأسيسية المهمة، حيث كان حينها مكلفاً بالإجابة عن سؤال «ماذا بعد؟»، لم يكن «برجينسكى» قد قطع الـ15كم الفاصلة بين البيت الأبيض والمكتب الذى يجلس فيه أمام ضباط الاستخبارات المركزية، إلا بعد أن نجح البيت الأبيض فى استدراج الاتحاد السوفيتى للدخول العسكرى إلى الأرض الأفغانية، وذلك بعد إحباط مخطط أمريكى لانقلاب عسكرى فى أفغانستان فشل فيه هؤلاء الجالسون أمامه كالتلاميذ.
يوم عبرت القوات السوفيتية الحدود الأفغانية، كتب «برجينسكى» للرئيس كارتر سطوراً محدودة اعترف بها لاحقاً فى مقابلات صحفية: «الآن لدينا الفرصة، لكى نعطى الاتحاد السوفيتى حرب فيتنام الخاصة به». وعلى أثر ذلك وصل إلى مقر هذه المكاتب الفارهة، ليدير تلك الحرب، وليدق بقوة مسامير نعش الإمبراطورية السوفيتية. وفى معرض إجابته عن سؤال «ماذا بعد؟» كان مهتماً لأن تصل رؤيته المتكاملة إلى هؤلاء الضباط، الذين سيجوبون أكثر نقاط العالم سخونة وارتباطاً بما عكف عليه بالبيت الأبيض قبل قدومه إليهم. تلخصت حينها رؤية «برجينسكى» بأن الحرب ضد الاتحاد السوفيتى تحتاج إلى من يخوضها نيابة عن الولايات المتحدة، وهى مهمة ثقيلة ومركبة، لن يضطلع بها بالطبع الأفغان وحدهم، فهناك ثمة كتلة واسعة يتجاوز عددهم المليار نسمة وتضم العشرات من الدول متنوعة الإمكانيات، فضلاً عن أن لدى الولايات المتحدة وأصدقائها مساحات نافذة للحركة داخل تلك الكتلة.
أحد حضور تلك الاجتماعات المتتابعة التى كانت تدور بشأن ترتيب «ماذا بعد؟»، ذكر أن لحظة الإتيان بالكثير من الخرائط ووضعها أمام الحضور، شهدت وقوفاً مسرحياً لـ«برجينسكى» أمامها وإمساكه بـ«قلم فلوماستر» وسط صمت مطبق معبّأ بالإثارة لدى المستمعين. ليرسم دائرة حمراء كبيرة شملت الدول العربية جميعها، ثم خرج بالدائرة إلى أخرى ضمت الدول الإسلامية، بداية من إيران، مروراً بباكستان، وصولاً إلى دول آسيا الوسطى. حينها بدا المشهد أمام هذه الدوائر والحزام السميك الخانق على خاصرة الاتحاد السوفيتى، فى احتياج إلى راية أو مرجعية يمكن تفصيل الحديث بشأن صياغتها، «برجينسكى» كان قد أعد إجابة متكاملة عن هذا السؤال، فلم يكن هناك ما يجمع تلك الكتلة سوى «الدين الإسلامى»، لتبرز حينها للمرة الأولى أطروحات صناعة مصطلح «الجهاد». وفى طيات شروح مستشار الأمن القومى لمتطلبات هذا التخطيط، كان مطلوباً العمل على دفع «حالة» الدين الإسلامى ليصبح فى صدارة أحداث مكونات تلك الكتلة من الدول الرئيسية، وذكر أيضاً أن هناك دائرة محدّدة من استخبارات دول صديقة سيسند إليها مهام بعينها، وستكون على علم بالمهمة الكلية، هذه الدول هى بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.
أمام جملة (العمل على دفع حالة الدين الإسلامى، ليصبح فى صدارة أحداث مكونات تلك الكتلة، من الدول الرئيسية)، ربما ونحن نقف فى نهاية السبعينات، نجدنا أمام حدثين فارقين قلبا حينها المنطقة المشار إليها رأساً على عقب. وحتى اللحظة لم يكشف اللثام كاملاً عن مدى ارتباطهما بعملية «الدفع» المشار إليها، خصوصاً أنهما يتشابهان «رغم اختلاف الحدثين كلية» فى جزئية تثير الانتباه، وهى التسارع الشديد «غير المنطقى» لمقدماتهما حتى تمام وقوعهما. الحدث الأول كان «الثورة الإسلامية» التى وقعت فجأة فى إيران 1979م، وأطاحت بحكم الشاه، لتضع دولة بحجم وإمكانيات إيران تحت حكم «الملالى» والقيادات الدينية الشيعية بزعامة «مرشد أعلى» هو آية الله الخومينى. الذى كان يعيش منفياً فى كنف «الاستخبارات الفرنسية» بباريس، كمعارض عادى، لم يكن هناك ما يشير إلى إمكانية قيامه منفرداً، أو بإمكانيات مريديه، للقيام بالزلزال الإسلامى الذى لم يستغرق شهوراً قبل أن يهبط بالطائرة فى أرض مطار طهران!
الحدث الثانى الذى وقع قبل أن تستفيق المنطقة من صدمة الأول، لم يقل عنه إثارة أو غموضاً، بالرصاصات التى انطلقت لتغتال رئيس مصر «أنور السادات» فى العرض العسكرى، وبمرجعية «إسلامية» لم تتوافر لها المقدمات أو الإمكانيات الكافية لضمان النجاح لمثل تلك الجريمة الكبيرة.
بالطبع هناك روايات كثيرة سُطِّرت لتقص مقدمات وتفاصيل القيام بالحدثين الكبيرين، لكن ما يمكن الوقوف عليه اليوم وطرحه من التساؤلات، يتعلق بالتوافق الزمنى وبما كانت المخابرات الأمريكية قد بدأت به بالفعل حينئذ، من تشكيل وتدريب المجموعات القتالية التى ستدخل أفغانستان، وبدء انطلاق ضباط الوكالة من «لانجلى» إلى باكستان، لتأسيس مقر عمليات متقدم فى مدينة «بيشاور» الحدودية. وانطلاق آخرين إلى مراكز بعينها داخل العالم الإسلامى سيتم حشد شبابها تباعاً، لدفعهم إلى ساحة القتال، فما الأدوار التى يمكن تصور قيام ضباط الوكالة بها من أجل صياغة «الخدعة الكبرى» المسماة «الجهاد الإسلامى»؟ هل اشتملت تلك الأدوار على ارتباط ما بالحدثين الكبيرين اللذين شكلا المنطقة، على صورة مغايرة تماماً لما كانت عليه قبلهما، وهى ربما تَسُد بعضاً من الفجوات التى صاحبتهما. على الأقل نحن نعلم ما انكشف لاحقاً من أن الكثيرين ممن كانوا منخرطين فى عملية «اغتيال السادات» وما حولها، طاروا بعد سنوات قليلة إلى بيشاور ليصيروا جنوداً لضباط الوكالة، قبل دفعهم لعبور الحدود إلى أفغانستان كى يبدأوا العمل مباشرة لصالح «برجينسكى» فى مهمة «الجهاد» الإسلامى.