كانت مفاجأة لى أن أجد أن جامعة السوربون الفرنسية العريقة تهتم بالأستاذ الإمام محمد عبده بتنظيم ندوة فى مكتبتها عن هذا الإمام، حضرها عدد من عجائز وشباب الباحثين الفرنسيين.. وكانت دهشتى الثانية أن أحداً من الباحثين العرب «لا من لبنان ولا من مصر ولا من شمال أفريقيا» قد حضر هذه الندوة التى كانت حسبما بدا لى مقصورة على الباحثين الفرنسيين، سألت نفسى: لماذا لم يحدث تواصل من نوع ما بين الباحثين هنا والباحثين هناك لا سيما وأنا أعلم أن جامعة الأزهر زاخرة برجال دين يعرفون قدر الأستاذ الإمام حق قدره، بالإضافة إلى رسائل علمية تتناول الرجل من حيث مرتكزات فكره وفتاواه، ناهيك عن أنها تبرئه تماماً من الفكر السلفى الذى برع فيه تلميذه الأول محمد رشيد رضا صاحب مجلة المنار!
وفى مصر وصلتنى رسالة من المجلس الأعلى للثقافة تشير إلى أن الدكتور عزت قرنى، أستاذ الفلسفة المعروف، سيترأس ندوة مصرية تبحث فى مدرسة الإمام محمد عبده وتلاميذه الذين ملأوا الدنيا أفكاراً ومواقف، أمثال سعد زغلول وأحمد لطفى السيد، والشيخ مصطفى عبدالرازق واندهشت أنه لا توجد صلة من نوع ما بين ثقافة مصر وثقافة باريس، لا سيما أن الرجل الذى تدور حوله الأبحاث هو رجل واحد: إنه الأستاذ الإمام محمد عبده، وتذكرت أن ندوة دولية نُظمت حول هذا الرجل قبل سنوات، وكان منظمها هو الناقد الراحل سامى خشبة الذى طلب منى وقتئذ أن أحمل رسالة إلى شيخ المستشرقين جاك بيرك، أشهر من ترجم معانى القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية، وأذكر أن الرجل رفض خشية أن يتبارى فى سبه وشتمه بعض الباحثين، أمثال الدكتورة زينب عبدالعزيز! وهذا يعكس كما قيل لى أن هناك شكوكاً كثيرة بين الباحثين الفرنسيين والباحثين المصريين!! أياً كان الأمر لقد مرت هذه الندوة الدولية وغاب عنها جاك بيرك وآخرون! والمؤسف أننا نعمل «مونولوجات»، فكل دائرة بحثية تهتم بطريقتها بالأستاذ الإمام فى مصر وفى فرنسا لا تلاقى بين الدائرتين! وأذكر أننى تحدثت مع كبير المستشرقين الفرنسيين جاك عن الأستاذ الإمام فقال لى إنه يعتبره صاحب مدرسة الاعتدال.. ولم يأخذ حقه فى البحث والدراسة لا سيما مدرسته وتلاميذه: سعد زغلول هو تلميذه السياسى.. والشيخ مصطفى عبدالرازق هو تلميذه الفلسفى.. أما الشيخ محمد رشيد رضا فلقد تخلف عنه وأصبح رأس حربة فى الفكر السلفى الرجعى «هكذا قال».
وأذكر أيضاً أن البروفيسور بيير تييه، رئيس قسم فلسفة العصور الوسطى فى جامعة السوربون، كان يقول إن الأستاذ الإمام محمد عبده كان رجلاً عبقرياً! لكن هذا العبقرى كان محكوماً بعمر إنسانى، بمعنى أنه كان سيعيش إلى ستين أو سبعين عاماً ثم يموت بعد ذلك.. نحن فى حاجة لمعرفة أفكاره.. أين هى الآن.. وهل تطورت مع تلاميذه أم تخلفت فالرجل كان تنويرياً، لكنه مات عام 1905 فماذا حدث بعده! العجيب والغريب أنه ما زال موجوداً فى الفكر الفرنسى حتى اليوم، بل إن شباب الباحثين الفرنسيين المهتمين بتجديد الخطاب الدينى يلتفون حول الأستاذ الإمام، باعتباره رائد التجديد فى مصر والعالم العربى. على كل حال لقد خرجت من هذه الندوة المصرية التى هندسها وأشرف عليها د. عزت قرنى بـ«شيئين»:
الأول أننا نعمل فى مصر وحدنا.. فلا صلة مع الفكر الأوروبى رغم أن ندوة باريس أثبتت أنهم يفكرون فى ذات الشخص محمد عبده، وكان الأولى أن يكون هناك تواصل ما دام الاتجاه واحداً، وعدم تواصلنا سيعمق الهوة الموجودة بين الفكرين: الفكر المصرى والفكر الفرنسى، وستزداد مساحة سوء الفهم وسوء الظن ويتباعد الفكران.. وهذه كارثة!
الثانى: أنه لا صلة مع الأبناء الذين لا يعرفون محمد عبده.. من يكون وماذا فعل.. ولا يعرفون أن رسالة التوحيد التى كتبها وترجمها تلميذه مصطفى عبدالرازق لا تعدل إلا مقدمة ابن خلدون فى الجيل القديم.
لقد غاب عنا الإمام محمد عبده.. وغابت عنا أسماء مهمة مثل عباس العقاد وطه حسين.. وآخرين.. وما أحوجنا إلى استحضار هذا فى زمن تفشت فيه الأفكار الظلامية وأفسدت حياتنا داعش، الجماعة الإرهابية الذين كان يقف كالطود فى وجههم شخص مثل عباس العقاد، كما كان يسمى الإخوان الإرهابية بالخوان وليس الإخوان!!
ونحن نتكلم عن تجديد الخطاب الدينى لا بد من استحضار هؤلاء الكبار وعلى رأسهم الأستاذ الإمام محمد عبده.. فهو شعب كامل مستنير ممثل فى رجل!