اليوم نصل إلى مناقشة توصيات مؤتمر «التعليم فى مصر.. نحو حلول إبداعية»، وللتذكير فقد ناقش المؤتمر رؤية وزير التربية والتعليم والتعليم الفنى، ووزير التعليم العالى والبحث العلمى عن تطوير التعليم.
وقد أعلن المشاركون فى المؤتمر العديد من التوصيات التى تضمنت دعوة الدولة إلى إصدار «إعلان سياسى» يتضمن التزامها بجعل «التعليم» هو المشروع القومى لمصر فى السنوات العشر المقبلة وتوفير الموارد اللازمة لتنفيذه!!!
وتثير تلك التوصية التعجب، لأن الدولة التى يوصيها المؤتمرون، ومنهم وزيران فى الحكومة، تجاهلت تنفيذ النصوص الدستورية فى المادة 19 التى أكدت أن التعليم حق لكل مواطن، هدفه بناء الشخصية المصرية، والحفاظ على الهوية الوطنية، وتأصيل المنهج العلمى فى التفكير، وتنمية المواهب وتشجيع الابتكار، وترسيخ القيم الحضارية والروحية، وإرساء مفاهيم المواطنة والتسامح وعدم التمييز، وتلتزم الدولة بمراعاة أهدافه فى مناهج التعليم ووسائله، وتوفيره وفقاً لمعايير الجودة العالمية، وأن التعليم إلزامى حتى نهاية المرحلة الثانوية أو ما يعادلها، وتكفل الدولة مجانيته بمراحله المختلفة فى مؤسسات الدولة التعليمية، وفقاً للقانون، وأن تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم لا تقل عن 4% من الناتج القومى الإجمالى، تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية، وأن تشرف الدولة عليه لضمان التزام جميع المدارس والمعاهد العامة والخاصة بالسياسات التعليمية لها.
كما تجاهلت الدولة نص الدستور فى المادة 20 بأن تلتزم الدولة بتشجيع التعليم الفنى والتقنى والتدريب المهنى وتطويره، والتوسع فى أنواعه كافة، وفقاً لمعايير الجودة العالمية، وبما يتناسب مع احتياجات سوق العمل.
وأيضاً تغافلت الدولة نص المادة 21 بضرورة أن تكفل الدولة استقلال الجامعات والمجامع العلمية واللغوية، وتوفير التعليم الجامعى وفقاً لمعايير الجودة العالمية، وتعمل على تطوير التعليم الجامعى وتكفل مجانيته فى جامعات الدولة ومعاهدها، وفقاً للقانون، وأن تلتزم الدولة بتخصيص نسبة من الإنفاق الحكومى للتعليم الجامعى لا تقل عن 2% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية.
وقد سبق النص الدستورى فى المادة 22 على الاهتمام بالمعلمين، وأعضاء هيئة التدريس ومعاونيهم باعتبارهم الركيزة الأساسية للتعليم، وألزم الدولة بتنمية كفاءاتهم العلمية، ومهاراتهم المهنية، ورعاية حقوقهم المادية والأدبية، بما يضمن جودة التعليم وتحقيق أهدافه.
تجاهلت الدولة نص الدستور فى المادة 23 بأن تكفل الدولة حرية البحث العلمى وتشجيع مؤسساته، باعتباره وسيلة لتحقيق السيادة الوطنية، وبناء اقتصاد المعرفة، وترعى الباحثين والمخترعين، وتخصص له نسبة من الإنفاق الحكومى لا تقل عن 1% من الناتج القومى الإجمالى تتصاعد تدريجياً حتى تتفق مع المعدلات العالمية. كما تكفل الدولة سبل المساهمة الفعالة للقطاعين الخاص والأهلى وإسهام المصريين فى الخارج فى نهضة البحث العلمى، إذ نرى الدولة تارة تخصص للبحث العلمى وزارة مستقلة، وتارة تدمجه فى وزارة التعليم العالى!!!
كما لم تلتزم الدولة بتنفيذ المادة 238 من الدستور التى نصت على أن تضمن الدولة تنفيذ التزامها بتخصيص الحد الأدنى لمعدلات الإنفاق الحكومى على التعليم، والتعليم العالى، والصحة، والبحث العلمى المقررة فى هذا الدستور تدريجياً اعتباراً من تاريخ العمل به، على أن تلتزم به كاملاً فى موازنة الدولة للسنة المالية 2016-2017، ومن ثم، فإن توصية المؤتمر بضرورة الوفاء بالالتزامات الدستورية للتعليم والبحث العلمى فى الموازنة العامة للدولة تصبح من قبيل التمنيات لا أكثر!
ومن توصيات المؤتمر المهمة إنشاء «مفوضية للتعليم»، وتلك الفكرة لم يتم تفصيلها بالعمق الواجب، ذلك أن تنفيذها يتطلب إعادة هيكلة كاملة لقطاع التعليم وتغيير الإطار التنظيمى كله بأن تكون الهيئة المقترحة «هيئة وطنية مستقلة للتعليم والثقافة تضم خبرات علمية فى نظم وتقنيات التعليم والتربية، كما تضم ممثلين لأصحاب المصلحة فى التعليم من أولياء الأمور وأعضاء الهيئات التدريسية والإدارة التعليمية فى مراحل التعليم المختلفة، وتضم كذلك ممثلين للطلاب ومنظمات الأعمال ومنظمات المجتمع المدنى».
وتختص تلك الهيئة بوضع الرؤية العامة والفلسفة الوطنية للتعليم والمبادئ الرئيسية التى توجه فعالياته، وتصميم الاستراتيجية الوطنية للتعليم شاملة مستوياته المتعددة (التعليم قبل الجامعى، والتعليم الجامعى والعالى) وإقرارها فى استفتاء شعبى حقيقى، ثم توثيقها فى مجلس النواب باعتبارها وثيقة وطنية لا يجب أن يمسها تغيير أو تعديل إلا بناء على استفتاء مماثل، بحيث تكون استراتيجية التعليم بعيدة عن الرؤى الشخصية لوزراء التعليم المتعاقبين.
كما تختص الهيئة بتصميم الهيكل التعليمى الرئيسى من حيث المراحل وعدد سنوات كل مرحلة والبناء العام للمؤهلات العلمية وعلاقاتها المتداخلة، وتحديد أسس ومحاور بناء المناهج وتكوين الطلاب بما يتوافق والتوجهات الوطنية ومبادئ الديمقراطية وحقوق المواطنة للإنسان المصرى والوصول به إلى العالمية، ووضع المعايير الرئيسية للتعليم شاملة المؤسسة التعليمية وعناصرها المختلفة، وشروط وإجراءات الترخيص بإنشاء وتشغيل المؤسسات التعليمية ومقوماتها الرئيسية، ووضع معايير وتقنيات تقييم جودة المؤسسات والبرامج والمناهج التعليمية ومخرجات المنظومة الوطنية للتعليم، وشروط وإجراءات منح الاعتماد.
وفى ضوء التنظيم المقترح للمنظومة الوطنية للتعليم يتم توحيد وزارة التربية والتعليم والتعليم الفنى ووزارة التعليم العالى، ووزارة الثقافة فى وزارة واحدة تختص بالإشراف على تنفيذ الاستراتيجية الوطنية للتعليم والثقافة باعتبارهما رافدين مكملين فى مهمة التنمية البشرية للمواطن المصرى وتصبح وزارة التعليم والثقافة الموحدة هى أداة تنفيذية تقوم على تطبيق الرؤية الجديدة للمنظومة التعليمية من دون أن يكون لها تعديل أو تبديل أى منهما، مع إصدار قانون شامل للتعليم بناء على اقتراح الهيئة الوطنية للتعليم والثقافة يترجم مبادئ وأسس وأهداف الاستراتيجية الوطنية للتعليم ويحدد اختصاصات ومسئوليات كل من عناصر المنظومة الوطنية للتعليم، ويقنن الضوابط والمعايير التى تضمنتها وثيقة الاستراتيجية، كذا تفعيل الهيئة الوطنية لضمان جودة التعليم والاعتماد لمراقبة مستويات الجودة فى عناصر المنظومة الوطنية للتعليم واتخاذ إجراءات منح الاعتماد للمؤسسات والبرامج التى تستوفى الشروط، وكذا سحب الاعتماد حين مخالفة شروطه.
فإذا لم توضع التوصيات السابقة موضع التطبيق الجاد، تصبح بقية توصيات المؤتمر مجرد تحصيل حاصل أو كما يقول المصريون «كلام فك مجالس»! وعلى سبيل المثال التوصية بإعداد نظام تعليمى جديد للناشئة، يتسق مع رؤية مصر 2030، حيث بيّنا فى مقالنا الأسبوع الماضى أن تلك الرؤية لم يتحقق منها شىء وأنها تضمنت أهدافاً ومبادئ أقرب إلى الأحلام واتسمت بالمبالغة والبعد عن الواقعية، وكان أولى بالمؤتمر إخضاعها للتحليل الموضوعى والمناقشة الجادة لتبين أسباب عدم تنفيذها والتماس الحلول الواقعية لتفعيلها.
ولو كان المؤتمرون قد اطلعوا على تقرير البنك الدولى ومنظمة OECD فى العام 2008 بناء على طلب وزير التعليم العالى المصرى فى ذلك الوقت، والذى أشرنا إليه فى مقالنا السابق، لكانوا قد أعفوا أنفسهم من عناء التوصية مجدداً بالانطلاق الحقيقى إلى تكوين طالب مصرى عربى عالمى يجيد لغة أجنبية أو أكثر، مع اعتزازه بلغته القومية، إلى آخر ما جاء فى توصية المؤتمر، فقد أفاض تقرير البنك الدولى فى شرح آليات بناء استراتيجية للتدويل والخروج بمؤسسات التعليم المصرية إلى حلبة المنافسة الدولية.
وأخيراً، كل مؤتمر والتعليم باق على ما عليه إلى أن يشاء الله!!!