أياً كانت النظم الحاكمة ستظل علاقات المصريين بأشقائهم السودانيين أقوى من أى محاولات للدفع بها نحو خصومة زائفة أو توترات مصطنعة، ولذا لم يكن غريباً على المسامع ما ذكره الوزيران، المصرى سامح شكرى والسودانى إبراهيم الغندور بعد لقائهما الأخير فى القاهرة قبل ثلاثة أيام من أن علاقات الشعبين قوية وراسخة، وأن لا شىء سيؤثر عليها وأن توجيهات الرئيسين السيسى والبشير هى العمل من أجل مزيد من التعاون وتقوية العلاقات.
الكلمات السابقة تبدو من النوع المتكرر رغم أنها تمثل بقدر ما واقعاً نعيشه، ومع ذلك فهى لم تقدم إجابات أو تفسيرات مقنعة للقضايا التى أثيرت فى الأشهر الأخيرة وسببت بعض التوتر والملاسنات المتبادلة، فالحوار الصحفى للوزيرين لم يذكر أى شىء ذى بال حول الملفات التى كانت وما زالت سبباً للخلاف بين البلدين وأدت إلى بعض التوتر، وفيما عدا إشارات عابرة لموضوعين وهما؛ الاتهامات السودانية لمصر بدعم المتمردين فى دارفور واستيلاء القوات السودانية على مدرعات مصرية كانت بيد المتمردين، والثانى فرض التأشيرات على المصريين الراغبين فى السفر إلى السودان، فلم تكن هناك إجابات شافية للملفات التى تمس حياة الشعبين وبعضها لم يُطرح أصلاً ولا نعرف عنه أى شىء سوى ما ينشر فى الصحف السيارة أو وسائط الإنترنت المختلفة، وكلاهما غير رسميين، ولكنهما يضجان بقصص وروايات مطلوب أن تُفسر أو تنفى أو توضح ملابساتها بصورة منطقية، للأسف لم يحدث شىء من هذا رغم أن الوزيرين والمتحدثين باسميهما أكدا أن اللقاء كان جلسة أخوية ومكاشفة، وهى رسالة تعنى أن كلاً منهما تحدث بحرية وطرح ما لديه من معلومات أو تفسيرات، وعلى هذا النحو هى مكاشفة الغرف المُغلقة التى لا تليق بحق الرأى العام فى البلدين فى معرفة ما الذى تم وما الذى اتفق عليه بشأن القضايا الخلافية.
ندرك أن هناك عدة ملفات محل خلاف، الأول خلاف تاريخى كالذى حول حلايب وشلاتين، وأخرى مستحدثة كالتى تخص سد النهضة الإثيوبى وكيفية معالجة آثاره البيئية وتلك المتعلقة بحجز جزء من حقوق المياه التاريخية للبلدين على الأقل أثناء فترة الملء للخزان وراء السد، وثالثاً اتهامات سودانية مباشرة لمصر بدعم متمردى دافور ويقابلها شكوك مصرية وإن لم تكن غير معلنة باستضافة الخرطوم عناصر إخوانية مطلوبة للقضاء المصرى أو تبث تحريضاً ودعاية سوداء ضد الوضع المصرى، ورابعاً مضايقات سودانية للمستثمرين المصريين الذى ذهبوا للسودان كبلد شقيق للإقامة والاستثمار لا سيما فى المجال الزراعى، وخامساً حملات إعلامية سودانية ضد مصر تبدو موجهة إلى حد كبير ومليئة بالسخافات، وسادساً إقدام السودان على حظر استيراد السلع الزراعية المصرية بدون سبب مقنع.
هذه الملفات وغيرها بحاجة إلى مواقف عملية إذا كان هناك حرص مشترك بين الحكومتين وجدية على احتوائها والانطلاق إلى توسيع رقعة المصالح الحيوية التى تجمع البلدين والشعبين، وقد نستثنى ملف حلايب وشلاتين باعتباره يمتد إلى سنوات تقترب من ستة عقود، ويتعلق بتفسيرات قانونية وسياسية ومواقف متباعدة للغاية، وغالباً لن يكون لهذا الملف أى قيمة عملية إذا نظر البلدان إلى الإمام وامتنعت الخرطوم عن توظيف هذا الملف بين الحين والآخر لتوجيه الأنظار الداخلية بعيداً حين يكون الوضع الداخلى يمر بفترة حرجة بين الحكومة السودانية وبين قطاعات من الرأى العام والأحزاب السودانية الأخرى، وهو توظيف أظهر أن الخرطوم تقبل أحياناً أن تضحى بعلاقتها مع مصر حكومة وشعباً من أجل إرضاء قوى خارجية ليست على وفاق مع القاهرة، وكلنا لاحظنا أن الخرطوم فى الأشهر القليلة الماضية تعمدت بيان مسافة مصطنعة مع مصر فى الوقت الذى كانت فيه علاقات مصر تعيش حالة برود مكتومة مع السعودية، فضلاً عن حالة عداء قطرى بمثابة امتداد لجهد التنظيم الدولى العدوانى ضد استقرار مصر.
علاقات القاهرة الراهنة عادت إلى طبيعتها التعاونية مع الرياض، فى الوقت الذى تضغط فيه أربع دول خليجية على قطر لكى تغير من سياستها الداعمة للإرهاب والإرهابيين ولكى تتوافق مع المعايير التى اعتمدتها الدول الخليجية وأخرى عربية وإسلامية فى قمة الرياض التى جمعت قادة هذه الدول مع الرئيس الأمريكى ترامب، وفق هذه التطورات ونتائجها المحتملة قريباً على قطر لم يعد الرهان على الدوحة ودعمها مسألة مضمونة، بل غالباً سيؤدى مثل هذا الرهان إلى خسائر لن يستطيع السودان تحملها، وكما عودتنا الخرطوم بقدرتها على تغيير التحالفات بين عشية وضحاها، أصبح الخيار الأمثل هو تجاوز التوتر المصطنع مع القاهرة وإحياء الاتصالات والبحث عن حلول، وربما أيضاً الخوض فى تعاون عسكرى لمواجهة خطر الإرهاب الوارد من الفوضى الليبية.
على القاهرة أن تتمسك بأمنها ومصالحها فى الوقت ذاته اختبار الإرادة السودانية على تصحيح مسارها تجاه الملفات السابق ذكرها، وإن وُجد خير فى الاقتراح الذى ذكره الوزير إبراهيم الغندور بشأن التعاون العسكرى والأمنى لضبط الحدود المشتركة ذات الألف ومائتى كيلومتر، فلن تتردد القاهرة من خلال ضمانات حقيقية للتعاون فى تحويل الاقتراح إلى آلية عمل مثمرة، وكما يُقال فى علاقات الدول إن التعاون العسكرى المشترك ينجح فى حالة كانت قاعدة التعاون بين البلدين فى المجالات الأخرى، السياسية والاقتصادية والثقافية والتجارية وغيرها، قوية وثابتة، أما فى حالة التردد والتوظيف من أجل الضغط وافتعال المعارك التى لا أساس لها، فإن أى تعاون عسكرى لن يؤتى نتائجه بل ربما يقود إلى حالة شك وتوتر أكبر، وباختصار فالكرة فى ملعب الخرطوم.
مطلوب وقف تام للحملات الإعلامية الموجهة، وإنهاء المضايقات للمستثمرين المصريين وعدم تجاوز حقوقهم وتوفير المناخ القانونى الملائم لكى يسهموا فى نهضة السودان وتعميق العلاقات بين الشعبين، وإنهاء قرارات حظر استيراد المنتجات الزراعية المصرية كسياسة عقابية، وإن وجُد عيب فى شحنة معينة فليكن قرار بالمنع لهذه الشحنة وبأسباب مقنعة، أما الحظر من قبيل العقاب الجمعى فهذا مرفوض وغير مقبول بالمرة، وفى انتظار حل منع التأشيرات والتضييق على المصريين الراغبين فى السفر إلى السودان، وفى المقابل ننتظر تفسيراً لقصة المدرعات المصرية المزعومة فى دارفور، حتى لا يظل هناك تناقض بين ما نؤمن به من عدم التدخل فى شئون الغير، وبين اتهامات برزت فجأة ولكنها مزعجة.