تتوالى الأخبار هذه الأيام عن قرب مناقشة مجلس النواب المصرى اتفاقية تعيين الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية التى أحالتها الحكومة إلى البرلمان فى 29 ديسمبر من العام الماضى.
ومنذ ذلك الوقت يثور جدل كبير على الساحة المصرية بين اتجاهين مختلفين، فهناك من يرى أنه لا يجوز للبرلمان مناقشة الاتفاقية بعد صدور حكم بات ونهائى من دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية، بينما يرى آخرون أن نظر الاتفاقيات والمعاهدات الدولية هو حق أصيل للبرلمان بمقتضى المادة (151) من الدستور فقرة (1).
ويستند أصحاب هذا الرأى إلى أن الاتفاقية تُعد عملاً من أعمال السيادة، والتى تختلف عن أعمال الإدارة فى الآتى:
- أنها هى الأعمال التى تباشرها الحكومة باعتبارها سلطة (حكم) فى نطاق وظيفتها السياسية، وهذه الأعمال لا تمتد إليها الرقابة القضائية بحكم الدستور والقانون.
- أن الرقابة القضائية لا تمتد إلا إذا كان هناك تصرف إدارى حكومى (سلبى أو إيجابى) يمنحها حق تلك الرقابة وحسم النزاع الناشئ بين أطرافها، وهذا ما لا يتوافر بشأن اتفاقية تعيين الحدود البحرية الموقعة فى 8 أبريل 2016.
- أن هذه الرقابة قد عهد بها الدستور إلى مجلس النواب، ومن ثم لا يتوجب استنهاض ولاية القضاء فى استباق اختصاص محجوز لمجلس النواب من الناحية الدستورية استناداً إلى المادة (151) التى تقول: «يمثل رئيس الجمهورية الدولة فى علاقاتها الخارجية، ويُبرم المعاهدات، ويصدّق عليها بعد موافقة مجلس النواب، وتكون لها قوة القانون بعد نشرها وفقاً لأحكام الدستور».
- أن ذلك يعنى أن مجلس النواب هو وحده صاحب الاختصاص الأصيل فى التحقق من اتفاق المعاهدات التى تُبرمها الدولة مع نصوص الدستور من عدمه، كما أنه هو المعنىّ أيضاً بالتحقق مما إذا كانت الاتفاقية يترتب عليها التنازل عن جزء من إقليم الدولة من عدمه، مستنداً فى ذلك أيضاً إلى أن المادة (11) من قانون مجلس الدولة رقم 47 لسنة 1972 تنص على: «لا تختص محاكم مجلس الدولة بالنظر فى الطلبات المتعلقة بأعمال السيادة»، كما تنص المادة (17) من قانون السلطة القضائية رقم 46 لسنة 1972 على أنه «ليس للمحاكم أن تنظر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة فى أعمال السيادة».
إن المشرع حدد الفارق بين أعمال الإدارة والسيادة، بالأعمال التى تصدر من السلطة التنفيذية تطبيقاً لأحكام الدستور والقوانين واللوائح. وبمفهوم المخالفة الواجب إعماله، فإن أعمال «الحكم» التى تصدر من السلطة التنفيذية هى تلك التى تصدر بالمخالفة لأحكام الدستور والقوانين واللوائح، ولقد نصت المادة (197) من القانون (1) لسنة 2016 بشأن اللائحة الداخلية لمجلس النواب على «يُبلغ رئيس الجمهورية المعاهدات التى يُبرمها إلى رئيس المجلس، ويحيلها رئيس المجلس إلى لجنة الشئون الدستورية والتشريعية لإعداد تقرير فى شأن طريقة إقرارها وفقاً لحكم المادة (151) من الدستور، وذلك خلال سبعة أيام على الأكثر من تاريخ إحالتها إليها، ويعرض رئيس المجلس المعاهدات وتقارير لجنة الشئون الدستورية والتشريعية فى شأنها فى أول جلسة تالية ليقرر إحالتها إلى اللجنة المختصة أو طلب دعوة الناخبين للاستفتاء عليها بحسب الأحوال، وفى غير الأحوال المنصوص عليها فى الفقرتين الأخيرتين من المادة (151)».
ومن ثم، وفى ضوء ما نص عليه الدستور وقانون اللائحة الداخلية للمجلس، يمكن القول إن هذا الحكم الصادر من «الإدارية العليا» لا يحول دون ممارسة مجلس النواب لاختصاصه المنفرد والمنصوص عليه. ومن هنا، وفى ضوء ذلك، تتركز مهمة مجلس النواب فى الآتى:
- إعداد تقرير من لجنة الشئون الدستورية والتشريعية ثم إحالته إلى الجهة المختصة.
- مناقشة التقرير فى الجلسة العامة للمجلس والموافقة عليه أو رفضه، وفقاً لما نصت عليه المادة (197) من اللائحة.
إن تفسير هذه المادة اللائحية يؤكد أن التقرير بالرأى حول هذه الاتفاقية يجب أن يتضمن:
- (الشكل)، أى مدى صحة تمثيل الدولة فى مراحل التفاوض والتوقيع المبدئى من حيث الصياغة الشكلية.
- (المضمون)، أى من حيث موضوع الاتفاقية وما احتوته من التزامات تتحملها الدولة المصرية.
وهنا يثور تساؤل مهم: ولماذا لا تحال الاتفاقية للاستفتاء الشعبى ليحسم أمره باعتباره السلطة الأعلى؟!
لقد حدد نص المادة (151) من الدستور أن الاستفتاء الشعبى يكون واجباً فى حالة ما إذا كانت الاتفاقية من قبيل معاهدات الصلح والتحالف وما يتعلق بحقوق السيادة، وهذا لم يحدث فى هذه الاتفاقية، غير أن ذلك مرهون أيضاً باللجنة الدستورية والتشريعية والتى يتوجب عليها أثناء مناقشة الاتفاقية المحالة استظهار واستخلاص كون الاتفاقية قد تضمنت -صراحة أو ضمناً- ثمة مخالفة لأحكام الدستور أو تنازلاً عن جزء من إقليم الدولة من عدمه، ولها فى سبيل ذلك الاستعانة بمن تراه سواء من اللجان المختصة أو بغيرها.
ولذلك يتوجب على اللجنة استدعاء الخبراء والمختصين المعارضين قبل المؤيدين لتقديم ما لديهم من وثائق ومستندات تؤكد ادعاءاتهم وإذاعة هذه الجلسات علناً حتى يطلع الرأى العام على حجة كل طرف من الأطراف المعنية.
وإذا ما تبين أن هذه الاتفاقية تضمنت تلك المخالفة أو ذاك التنازل، قامت برفع تقريرها المتضمن رفض الاتفاقية، ووجب على المجلس فى ضوء هذا التقرير أن يقرر عدم جواز نظر الاتفاقية إعمالاً لحكم الفقرة الأخيرة من المادة (151) من الدستور.
وقد يثور التساؤل مجدداً: ومن يحسم الأمر، ونحن أمام حكمين قضائيين متناقضين، أحدهما صادر عن دائرة فحص الطعون بالمحكمة الإدارية العليا فى 16 يناير الماضى، ويقضى ببطلان الاتفاقية، والآخر صادر عن محكمة الأمور المستعجلة (نهائى وبات) أيضاً، ويقضى بصحة الاتفاقية؟ وأمام هذين الحكمين المتناقضين، وأمام حملات التشكيك فى كلا الحكمين، يصبح من الطبيعى على الحكومة أن تلجأ إلى المحكمة الدستورية العليا لترفع أمامها دعوى تنازع الاختصاص، وهو ما حدث الأسبوع الماضى، إذ تقدمت هيئة قضايا الدولة بدعوى جديدة أمام «الدستورية العليا» حول منازعة الاختصاص إزاء الحكمين الصادرين، وهذه الدعوى رُفعت باسم الحكومة وكأنها تقول للدستورية العليا: ماذا أفعل أمام حكمين متناقضين؟!
وإذا كان لجوء الحكومة إلى المحكمة الدستورية العليا لا يحول دون حق البرلمان فى نظر الاتفاقية، فإن هناك أحكاماً دستورية صدرت سابقاً، منها الحكم فى القضية رقم 20 لسنة 1934 قضائية دستورية بجلسة 14/6/2012 والذى نص على استبعاد الأعمال السياسية فى مجال الرقابة القضائية تأسيساً على أن طبيعة هذه الأعمال تأبى أن تكون محلاً لدعوى قضائية لدواعى الحفاظ على الدولة والذود عن سيادتها، ورعاية مصالحها العليا، مما يقتضى منح الجهة القائمة بهذه الأعمال -سواء كانت هى السلطة التشريعية أو التنفيذية- سلطة تقدير أوسع مدى وأبعد نطاقاً تحقيقاً لصالح الوطن وسلامته، دون تخويل القضاء سلطة التعقيب على ما تتخذه فى هذا الصدد.
ولقد حددت المحكمة الدستورية العليا بطرق الدلالة المختلفة معنى معيناً لمضمون أعمال السيادة، وأدرجت الاتفاقيات الدولية المتصلة بنظام الدولة السياسى اتصالاً وثيقاً أو بسيادتها فى الداخل أو الخارج تحت مظلة هذا المضمون، وخلصت من ذلك إلى اتجاه إرادة المشرع إلى إخراج جميع الأعمال التى تندرج ضمن هذا المضمون عن الاختصاص الرقابى للسلطة القضائية بجميع أفرعها.
لكل ذلك يمكن القول إن حق البرلمان فى نظر الاتفاقيات والمعاهدات الدولية هو حق أصيل بمقتضى الحكم الدستورى، بغض النظر عن الأحكام القضائية الصادرة، والتى سيحسم أمرها بالقطع الدعوى المرفوعة أمام الدستورية العليا، غير أن ذلك لا يُلزم البرلمان بالتخلى عن حق الدستور انتظاراً لحكم الدستورية، وإلا يكون بذلك قد خالف الدستور.