لم أدرك يوما معنى الموت، ماهيته..
كلما أخبروني أن فلانا قد مات، كنت لا أفهم، لا أجد معنى يغير الواقع..
كيف يرحل عنا من لا ترحل ذكرياته؟!
هل يمكن أن تمحي لحظات عايشناها؟! مواقف وأزمات اجتزناها؟!
كيف يمت فلانا وقد عشنا سويا؟!
يظل حيا أبد الدهر ما ظلت ذاكرتنا تعمل..
هممت عدة مرات أن أتصل بإسلام، صديق الدراسة لنرتب سويا موعدا للعب كرة القدم التي نعشقها، أبحث عن هاتفي النقال وأبحث عن اسمه في القائمة، فجأة تتوقف أصابعي علي الشاشة، قد رحل إسلام منذ عامين، أنت من تلقي الاتصال من مجهول يخبرك أن صديق عمرك قد دهس بين سيارتين على الطريق الدائري، ألا تذكر؟!.
نادرا ما أصبحت ألتقي أحمد خالد، صديق الدراسة الآخر، قابلته في جنازة إسلام، والحزن والصدمة يعترونا بالكلية يملآن الأجواء هممت بسؤاله عن توأمه محمد لماذا لم يحضر الجنازة! توقف يا مأفون ماذا تنوي أن تصنع؟! قد أخبروك أن محمدا قد رحل عن عالمنا قبلها بعام أو أكثر، لم تفهم يومها ولا تزال حتي الآن لم تدرك.
أنت تعلم أنك لم تحضر جنازته ولم تتصل للعزاء لهذا السبب، كيف تقدم العزاء في شخص حي تلتقيه في ذكرياتك ووجدانك يوميا؟!.
في السابعة من عمري انتفضت أمي على دعوة جارتنا تخبرها بتلقيها مكالمة هاتفية، لم نكن نهتم وقتها بامتلاك خط هاتف أرضي، إذ قلما تواجدنا في منزلنا بالهرم النائي عن وسط القاهرة وقتها، استقبلت أمي المكالمة ورحلنا مسرعين لبيت جدتي بباب الخلق.
قد رحلت ماما نوسة، هكذا سمعت.. رحلت كيف؟ وإلى أين؟! إلى جوار الله، هكذا أخبرونا.
لم أفهم ما قالوا، يالهم من حمقي، كيف رحلت وأنا آتيها يوميا في المنام بضحكتها الصافية تجلس في نفس مقعدها في وسط المنزل الفسيح تشع حبا وعطفا تدفئ به الجميع، وتوصيني بعينيها فأبتسم دون كلام.
في معسكر تدريبي لتلك الجمعية الخيرية، وأنا أستعد لإلقاء محاضرة اليوم الثاني وإدارة تدريبات اليوم، هاتفني والدي. اصبر واحتسب، قد رحل جدك، أتاني الخبر باردا كما أتاني قبلها خبر رحيل جدتي لأبي، كانت تقيم عندنا حممتها أمي ثم رحلت لتقيم برهة عند عمتي.
لم تكد تصل حتي أتانا خبر مغادرتها غير المتعمد منها للقاء ربها.
كعادتي لم أفهم، جدي وجدتي معي دوما، أتذكر مزاحه ومكانه الدائم في الصف الأول في المسجد، مهما تقدم به العمر، نصائحه وغضبه علي عدة مرات ثم عطفه السريع، ومرضه، مرضه الطويل العنيف، أتذكر كل هذا وأحياه.
المرة الوحيدة في عمري التي أدركت أن فلانا قد رحل، كانت برحيل خالتي نادية، كم كنت أعشق بساطتها ومودتها، حنوها الدائم الدافئ، لازلت أشتم عبق ريحها العطر، أخبروني بوفاتها فصدمت، كيف؟! ولماذا؟!
كان هذا بعد سنوات قلائل من رحيل جدتي الاثنتين، كنت في المرحلة الإعدادية وبدأ يتشكل وعيي، علمت حينها معني الموت، معني الفقد، ذكرياتك حية هناك لكنك تعجز عن خلق لحظات جديدة، خلق حديث جديد، عن الفوز بحضن يطمئنك ويد تربت عليك، بعدها بأشهر قليلة رحل زوجها الشيخ أحمد حزنا عليها، تفهمت جدا موته، الموت الوحيد الذي كان مبررا ومسببا بالنسبة لي.
الطبيعي ألا تستقر حياتك برحيل من تحب، كيف يحيا الناس بعد رحيل من يحبون؟! كيف تعمل رئتاهم وتتحرك دورتهم الدموية بانتظام؟!
لم أجد إجابة فاكتأبت عامين، عامان مرا بلا لحظة فرح أو حزن، بلا أي مشاعر، عامان مرا دون حياة، تتنفس؟! نعم.. تحيا؟! لا.
خالتك توتة في ذمة الله
أدركت صدمتي الأخيرة، توقف عقلي للحظات، لم أدر ما ينبغي أن أفعل، أخبرني زميلي في العمل أننا يجب أن نتحرك نلحق بجنازتها، جنازة من؟!
توتة؟! فقط منذ أعوام قليلة وأنا في الجامعة علمت أن طنط توتة اسمها الحقيقي فاطمة، كيف؟! هي توتة ولا شك، فاطمة تلك لا أعلمها..
كيف دفناها؟! لا أعلم، كل ما أدركه أني أردت البقاء هناك عند قبرها ما حييت، رغم علمي أن القابع هناك جسد فقط، روحها لازالت في وجداننا تنعشه وتحييه، رحلت توتة؟!
هكذا قالوا، وهكذا رأت عيناي، فقط قلبي لم ير ما قالوا.. والله كلهم بقوا ولم يرحلوا، لم أفتقدهم لحظة.. فكيف نفتقد من لم يغادر الوجدان لحظة؟! وبصمة روحه تعتنق روحنا؟!.