إن فعلها «ترامب» الآن فقد فعلها «بوش» سابقاً، فالحزب الجمهورى الذى يمثل الرأسمالية والتقليدية الدينية انسحب رئيسه بوش الابن من التوقيع على بروتوكول كيوتو لحماية المناخ، بعد أن وقع «كلينتون» الديمقراطى عليه، فقد عاد لوبى البترول والفحم ليفرض وصايته على العالم مرة أخرى، سعياً وراء المال، وفناء المزيد من الناس، وتجاهل العلم والعلماء، وتبنى وجهة نظر الجهلاء، فحينما تقول سفيرة أمريكية إن الولايات المتحدة ترى أنها ستدفع ثمناً مالياً غالياً مقابل اتفاقية باريس لحماية المناخ فهذا هو حديث المال، وليس حديث العلم، وحينما يقول «ترامب» إن بلاده ليست مستعدة للإنفاق المالى المطلوب لحماية المناخ مقابل احتمال تأثير للمناخ لا يزيد على 0.1%، فهذا استخفاف بعلماء أمريكا قبل غيرهم من العلماء.
معروف أن شعار الرأسمالية «اكسب اليوم ودع الناس يموتون غداً»، و«ترامب» يمثل الرأسمالية الأمريكية فى أوضح صورها، فلا جديد تحت الشمس، كأننا ما زلنا فى أول مؤتمر للحديث عن البيئة منذ أربعين عاماً، نحاول أن نقنع شركات البترول والفحم بأن هناك بديلاً للطاقة غير الطاقة الملوثة ولا فائدة، وكان وما زال شعارهم لنا المكسب التام، ولكوكب الأرض الموت الزؤام.
«ترامب» ويوم البيئة العالمى قنبلة بديلة للوردة: اختيار «ترامب» يوم البيئة العالمى 5 يونيو ليلقى قنبلة مناخية على العالم أجمع دون استثناء، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، فما أثر هذه القنبلة:
أولاً: اللعبة السياسية بين الجمهوريين والديمقراطيين انتقلت من المال والسلاح إلى البيئة والصحة، فقد اهتم الرجل بالقضاء على إنجازات التأمين الصحى لـ«أوباما»، وفشلت محاولته رغم تأثير بعض الجمهوريين، ورفض الغالبية منهم التنازل عن التأمين الصحى الشامل للشعب الأمريكى، ثم اكتشف «ترامب» أن «أوباما» أضاف إنجازاً جديداً للمناخ، فقرّر القضاء عليه.
ولا جديد تحت الشمس، وكأننا عُدنا إلى السؤال نفسه؟ هل صحة الناس أهم من إضاءة عمود إنارة؟ أم عمود إنارة يجلس تحته مريض سرطان؟ (وهو بالمناسبة السؤال نفسه الذى نسأله للحكومة المصرية، إنه الصراع نفسه بين التلوث والمرض من ناحية، رغم المكسب السريع والرفاهية الظاهرة، وبين الصحة والتكنولوجيا النظيفة، رغم بطء العائد المادى ظاهرياً، وبالطبع فمن المعلوم أن السيد وزير البيئة المصرى ركن ركين فى لوبى الفحم، بمعنى تأييد استخدامه رغم أنف الآثار البيئية والصحية.
ثانياً: لندن عاصمة الهباب بدلاً من عاصمة الضباب: إن لندن (عاصمة الهباب) هى أول مدينة فى العالم تدفع ثمن التلوث منذ أربعينات القرن الماضى، حينما انتشرت ورش الفحم فى كل مكان، فاستيقظ الناس ذات يوم على (عاصمة الهباب، بدلاً من عاصمة الضباب)، ومات المئات ومرض الآلاف، وكان هذا هو أول درس للتلوث والموت ضد الفحم، فهل هذا اختراع، أو نظرية علمية أم حقيقة واقعة، عاشها العالم مثلما عاش آثار القنبلة النووية على هيروشيما، وكان هذا أول درس للبشرية بأن الفحم والبترول لو كانا ذهباً أسود، فاستخدامه يوم أسود لأنك تكسب جنيهاً وتخسر بشراً.
ثالثاً: سياسيون ضد التلوث وسياسيون مع التلوث: من المسلم به أن العالم الآن يشهد فريقين من السياسيين يحكمان العالم، حيث يوجد سياسيون، معظمهم لهم توجهات يسارية واشتراكية ووسطية، مع وقف التلوث وحماية البيئة، ويقابلهم سياسيون معظمهم لهم توجهات يمينية ومتطرفة ورأسمالية مع استمرار التلوث لاستمرار المكسب، وهكذا، كل الأحزاب الليبرالية تتبنّى البيئة، والأحزاب المحافظة والرأسمالية تتبنّى حماية مصالح البترول والفحم (وليس خافياً عن أحد معركة استخدام الفحم فى مصر، التى وقف فيها وزير البيئة المصرى لأول مرة فى العالم يدافع عن الفحم، بدلاً من أن يدافع عن البيئة، وكان واجباً عليه أن يرفض، وعلى مجلس الوزراء أن يتحمل المسئولية فى الموافقة، دون أن يسجل موافقة وزير البيئة، لأنها سابقة لم تحدث فى السياسة فى العالم كله).
رابعاً: ضياع مجهود العلم والعلماء وتكنولوجيا الطاقة الجديدة: إن أخطر آثار قرار «ترامب» هو الاستهانة بالعلم، الذى استمر أكثر من مائة عام ليثبت أن المناخ حدث له تحول فارق سيتحول إلى أعاصير وسيول وتصحر وذوبان جليد وضياع محاصيل وانقراض حيوانات وغياب نظم بيئية بالكامل، يعيش عليها الملايين من البشر، أولها ندرة المياه، فماذا سيستفيد العالم من كوكب أصبح كارثة، حتى لو كان معهم ملايين الدولارات، ولا أعرف من هو العبقرى الذى أقنعه بضعف تأثير المناخ على الولايات المتحدة، رغم أن نائب الرئيس الأمريكى السابق آل جور عرض فيلماً واقعياً عن ذوبان الجليد فى ألاسكا، وما يحدث منذ 5 سنوات من ظاهرة النينو، وزيادة سرعة الأعاصير لأكثر من 300كم ساعة، وآلاف المشردين فى الخيام بأمريكا دليل واقعى على أن المناخ حدث له جنون بالفعل، ويبدو أن العبقرى الذى أقنع «ترامب» بعدم حدوث ضرر من الفحم هو نفسه الذى أقنع وزير البيئة المصرى، فهل يجرؤ هذا العبقرى على أن يناقش أحد العلماء فى ما يقول، أم هو المكسب المالى ولا شىء غيره؟؟!!.
خامساً: تصريح بالقتل لوزراء العالم الثالث: إن قرار «ترامب» هو تصريح بالقتل، سيسارع وزراء العالم الثالث فى الرد على أى حديث عن التلوث والمرض «هو احنا أحسن من أمريكا»، وهذا أخطر آثار قرار «ترامب»، لأن القدوة التى يقتديها وزراء وحكومات العالم الثالث من الدول المتقدمة سقطت، والحمد لله أن أوروبا ما زالت متمسكة بموقفها.
فماذا عن الموقف المصرى؟ إننى أضع الحقائق أمام صانع القرار المصرى:
1 - مصر من أكثر الدول تضرراً بظاهرة تغير المناخ، وخروج أمريكا سوف يقلل التمويل الدولى المتاح من خلال الصندوق الأخضر والصناديق الدولية الأخرى، مما يقلل فرص مصر فى الحصول على التمويل الدولى كمنح.
2- الصين والاتحاد الأوروبى أعلنا معاً التزامهما بالاتفاقية، وهاتان قوتان لا يُستهان بهما، وانضمت إليهما اليابان، أى أن غالبية الدول العشرين الصناعية ملتزمة بالاتفاق، فعلى مصر أن تختلف مع «ترامب»، وتقف بجانب الدول المؤيّدة لاستمرار اتفاقية باريس، وبصرف النظر عن رأى وزير البيئة المصرى، فالرجل مستسلم دائماً لكل ملوث ولا يُعبّر عن البيئة أبداً.
3 - مصر ملتزمة بقرارات المنطقة العربية والقارة الأفريقية ودول حوض البحر المتوسط ومجموعة الـ77، وكلها وقعت على اتفاقية باريس، وخروج أمريكا من اتفاقية دولية أمر يخصها وحدها، فقد وقفت ضد حلفائها جميعاً، حتى قال الرئيس الفرنسى ماكرون إنها تعمل ضد مجموعة العشرين، ومصر غير ملتزمة مطلقاً بالموقف الأمريكى، فقد سبق لمصر أن رفضت انسحاب أمريكا من بروتوكول كيوتو.
ختاماً: فلنستعد لمزيد من الكوارث والسيول والأعاصير والتصحّر، وكلما حدث هذا تذكروا أن الفاعل أمريكا.