يزخر التاريخ الإسلامى بنساء رائدات فى كافة المجالات، تم إخفاء قصصهن عن عمد أو نتيجة سيطرة الفكر السلفى والوهابى على الحياة فى مصر، حتى أصابنا الفلس الفكرى لنظل ندرس لعقود وأجيال متعاقبة نفس القصص الدموية المحرضة على القتل مثل وا إسلاماه أو قصص لا يخرج منها العقل المصرى بقيم تاريخية وإنسانية بقدر ما يظل عالقاً فى ذاكرة أجيال القبقاب الذى قُتلت به شجرة الدر.
لماذا إذا كنا مصرين على تدريس روايات من التاريخ الإسلامى لا نبحث عن روايات العمران بدلاً من روايات الدماء، وهنا يمكن النظر فى قصة زبيدة بنت جعفر بن المنصور، التى تعد راعية للآداب والفنون وأول مهندسة إنشاءات ومرافق وطرق فى التاريخ الإسلامى والعربى.
زبيدة كانت زوجة الخليفة العباسى هارون الرشيد، وكُنيتها زبيدة نظراً لشدة بياضها فى وقت لم يكن النقاب فرضاً أو وجه النساء عورة ووصفهن عاراً، قيل عنها إنها «سيدة جليلة، ذات يدٍ طُولَى فى الحضارة والعُمران، والعطف على الأدباء والشُّعراء والأطباء، ومن ذوات العقل والرَّأى، والفصاحة والبلاغة»، وقد عرف عن زبيدة اهتمامها الكبير بالآداب والعلوم، فبذلت الكثير حتى حشدت فى عاصمة بغداد مئات الأدباء والشعراء والعلماء ووفرت لهم كل وسائل الإنتاج والبحث، وكان ممن اشتهر منهم فى مجال الشعر العباس بن الأحنف، أبونواس، مسلم بن الوليد، أبوالعتاهية، الحسين بن الضحاك، والراوية خلف الأحمر، وشيخ أدب النثر الجاحظ، وعلماء اللغة الخليل بن أحمد وسيبويه والأخفش الأكبر وأبوعمرو بن العلاء، ومن علماء الدين الإمام أبوحنيفة والإمام الأوزاعى والإمام مالك بن أنس، إضافة إلى الكثيرين من الأطباء والمجددين فى شتى فروع العلم. وقد بذلت فى سبيل ذلك الأموال الطائلة، حتى يمكن القول إنها فتحت أبواب خزائنها لتحويل بغداد إلى قبلة ومستقر للعلماء من الزوايا الأربع للدولة، ومن الأطباء الذين كانت تشملهم برعايتها الطبيب جبريل الذى منحته راتباً شهرياً، قدره خمسين ألف درهم.
ويذكر المؤرخون أنها فى إحدى رحلات الحج شاهدت مدى معاناة حجاج بيت الله فى الحصول على مياه للشرب، حيث كان الوعاء الواحد يباع بدينار، ويقول المؤرخ أبوالفرج بن الجوزى إن زبيدة أمرت المهندسين بدراسة عاجلة لجر المياه إلى مكة المكرمة، فأشاروا عليها بأن الأمر صعب للغاية، حيث يحتاج لحفر أقنية بين السفوح وتحت الصخور لمسافة لا تقل عن عشرة أميال، وقال لها وكيلها: يلزمك نفقة كثيرة، فأمرته بتنفيذ المشروع على الفور ولو كلفت ضربة الفأس ديناراً، فأحضر خازن المال أكفأ المهندسين ووصلوا إلى منابع الماء فى الجبال، ثم أوصلوها بعين حنين بمكة، وهكذا أسالت الماء عشرة أميال من الجبال ومن تحت الصخور، ومهدت الطريق للماء فى كل خفض وسهل وجبل، وعرفت العين فيما بعد، وحتى الآن باسم عين زبيدة، وما زالت القناة التى بنتها تعرف باسم نهر زبيدة، وأقامت الكثير من البرك والمصانع والآبار والمنازل على طريق بغداد إلى مكة أيضاً، كما بنت المساجد والأبنية فى بغداد كذلك.
ولها آثار كثيرة فى طريق مكة من مصانع حفرتها وبرك أحدثتها وكذلك بمكة والمدينة، كما تحدث «ابن جيد» عن هذه المرافق التى شيدتها زُبيدة حتى أصلحت الطريق من بغداد إلى مكة، بما أقامته من منافع تخدم الحجيج والمسافرين وتوفر لهم الماء والطعام والسكن، حتى أحيت هذا الطريق المُوحش، ولولا ذلك لكانت هذه الطريق من أوحش المسالك على الإطلاق، ولا يزال جزء من الطريق بين الكوفة ومكة المكرمة، وهو الذى تولت إصلاحه، يعرف حتى اليوم باسم «طريق زبيدة».
أليست سيرة زبيدة أولى أن تدرس بدلاً من قبقاب أم على على رأس شجرة الدر!