لنتفق مبدئياً على قضية بديهية، وهى أن تباطؤ أو إهمال أى جهة أو مسئول عن الدور أو المهام المكلف بها هو فى حقيقته تنازل عن مبرر وجوده ذاته!
فحتى هذه اللحظة لا أدرى إذا ما كانت الرقابة على الأسواق وضبط الأسعار وتوفير السلع الغذائية للمواطنين وحماية المستهلك من جشع بعض التجار لا تزال من بين مهام وزارة التموين، والجهاز الذى يحمل ذات الاسم «حماية المستهلك» أم أنهما قد تنازلا عنها سواء كان ذلك طواعية أم قسراً تحت شعار إعمال آليات السوق، وانتهاج سياسة العرض والطلب.. أو عدم القدرة على المواجهة لضعف الإمكانيات أو قصور التشريعات أو غياب وسائل التمكين وإنفاذ القانون إذا كان موجوداً؟!
إذا كانت إجابة السؤال السابق بالنفى فإن كلاً من الوزارة والجهاز فى هذه الحالة قد فقدا أى مبرر لوجودهما أو على الأقل وجود مسئوليهما.. أما إذا كانت الإجابة بالإيجاب فإنه يصبح من حق أى مواطن أن يسأل أين دور الوزارة والجهاز فيما يحدث حالياً فى الأسواق؟
حالة الارتباك الواضحة فى السوق الداخلية نتيجة الارتفاع الجنونى فى الأسعار أصبحت لا تطاق، إذ تجاوزت كل الحدود المنطقية وأصبحت أسعار السلع والخدمات لا تعبر عن واقع قيمتها الحقيقية بدرجة باتت معها الشكوى من الغلاء وارتفاع الأسعار هو الموضوع الوحيد الذى ينجح دوماً فى اختراق «جدار الصمت الأبدى» بين الأزواج.. والأحاديث المتصلة بين الحضور فى أى تجمع سواء كان على مقهى شعبى أو أحد فنادق الخمسة نجوم!
فى كل مناسبة وعند مواجهة أى موجة جديدة من الغلاء يحلو للمسئولين التأكيد على اعتزامهم تطبيق حزمة من الإجراءات للسيطرة على الأسعار والحيلولة دون انفلاتها، إلا أن الواقع العملى يؤكد عكس ذلك، بدرجة أصبحت معها تأكيدات هؤلاء المسئولين مادة يومية للصحف لا معنى لها فى ضوء إصرار الأسعار على اختراق كل الحواجز بلا أى منطق.. وبالتالى لم يعد هناك أى سيطرة عليها.
وإذا كنا فى السابق قد اعتدنا على أنه فى كل مناسبة من المناسبات الدينية أو فى موسم علاوات الموظفين أن ترتفع الأسعار بصورة يتعمد المسئولون تجميلها بوصفها مجرد «تحريك الأسعار» وليس ارتفاعها أو رفعها، إلا أن الواقع يؤكد أن الأسعار أصبحت لا تتحرك بل تنطلق وبأقصى سرعة -لا تلاحقها حتى نظرات العيون- دون انتظار لأى مناسبة، وهو ما يحدث بالفعل الآن وحتى قبل بداية الشهر الكريم بفترة طويلة وتحديداً منذ لحظة الإعلان عن «تعويم الجنيه»، وإن كان الواقع يؤكد حدوث عكس ذلك الشعار تماماً وهو ما وجد التجار فيه الفرصة للتخفى وراءه وإرجاع زيادة الأسعار إلى تضاعف سعر الدولار، على الرغم من أن ما يطرحونه فى الأسواق من بضاعة أو سلع لا تمت بأى صلة للاستيراد من الخارج وبالتالى للدولار.
ولأن قضية ارتفاع الأسعار الجنونى تمس كل بيت مهما كان مستوى ساكنيه اقتصادياً واجتماعياً، فقد انقسم المواطنون إلى فريقين فى مواجهة هذه القضية، ما بين مؤيد لفكرة «المقاطعة» لكل ما يرتفع سعره من احتياجات لا تمثل ضرورة قصوى لحياة المواطن، وهو ما يعبر عنه رمزياً بـ«إحياء ثقافة غاندى» فى الاستغناء والاعتماد على عنزته الشهيرة لسد احتياجاته والوفاء بمتطلباته، وبين مجرد التعبير عن الغضب والسخط الشديد على بعض ممن لا يهمهم سوى تحقيق مصلحتهم الشخصية.
فور موجة التهاب الأسعار الجنونية التى صاحبت ما اصطلح الاقتصاديون على تسميته تعويم الجنيه خرج وزير التموين إلى الرأى العام بتصريحات أقرب إلى «الاستسلام والهزيمة» ليؤكد عدم قدرته على فرض «التسعيرة الجبرية» لأنها تتعارض مع سياسة العرض والطلب واقتصاديات السوق، هكذا قال «ولنذهب نحن إلى الجحيم»، وهو ما تلقفه التجار بسعادة بالغة، إذ إنهم اعتبروا هذه التصريحات هى «ساعة الصفر» لشن حرب إبادة على المواطنين وتحديداً محدودو الدخل الذين أصبحوا من «معدوميه» بسبب ما يصطدمون به من أسعار استمرت فى الارتفاع، بينما ظل وزير التموين فى موقف المتفرج ولم يتحرك، إلى درجة وصلت إلى حد زيادة أسعار بعض السلع كل 15 دقيقة لتنافس دقات ساعة جامعة القاهرة الشهيرة، بعد أن كانت قبل تصريحات الوزير ترتفع كل 6 ساعات على غرار «الأنتى بيوتيك»، ومع تسليمنا لحالة النشوة التى يمكن أن تنتابنا عندما نتفاءل ونتوهم بأن التلويح بسلاح المقاطعة سوف يجبر التجار على إعادة الأسعار إلى سابقها.. وإذا كان الزعيم الهندى غاندى قد نجح فى مطلع القرن العشرين فى مقاطعة كافة البضائع الإنجليزية وأشهر سلاح الاستغناء فى مواجهتها مكتفياً بعنزته الشهيرة.. يشرب لبنها ويغزل صوفها فإن واقع الأمر الآن يحتم مواجهة جنون الأسعار بإجراءات حقيقية عملية وفاعلة، إذ إن تطور الحياة فى القرن الحادى والعشرين لا يسمح بنجاح أسلوب غاندى وحده فى الاستغناء والمقاطعة وذلك لثلاثة أسباب:
الأول: أن المقاطعة والاستغناء لم يعد اختياراً بل قرار جرى فرضه على معظمنا لأسباب واضحة، ولم تقتصر هذه المقاطعة على تلك الاحتياجات الكمالية، إن صح التعبير، بل تسللت إلى كل ما هو ضرورى.
الثانى: أنه ليس هناك عدد من الماعز يكفى نحو93 مليون مواطن وفق آخر تعداد لنا.
الثالث: أنه حتى الآن لم تنجح المحاولات العلمية فى استنساخ عنزة يمكن أن تمثل بديلاً لفاتورة دواء أو فيزيتة دكتور أو رسوم مدرسة أو قسط شقة أو فاتورة كهرباء أو اعتبارها وسيلة مواصلات!!
وإذا كانت تصريحات الوزير واستسلامه الواضح، وصمت جهاز حماية المستهلك عما يحدث للمواطن قد أثمرت هذه الزيادات المتلاحقة فى الأسعار فإننا نحن المواطنين محدودى الدخل نناشدهما إما اتخاذ خطوات جادة بالفعل للسيطرة على تلك الموجات المتلاحقة من زيادة الأسعار وحماية المواطن أو إعادة قراءة مقدمة هذه السطور التى تمثل واقعاً نعيشه ونشعر به جميعاً باستثناء «الوزارة والجهاز»!!