تتوالى ردود الأفعال العنيفة الغاضبة تجاه مسلسل «الجماعة 2» الذى كتبه المبدع الكبير «وحيد حامد».. ويطالب «الوفديون» بوقف عرضه ويصفه أحدهم بالدراما البلهاء التى تهدف إلى تشويه رموز مصر من أجل عيون جماعة الإخوان.
يتركز الهجوم الضارى حول خطيئة فرية تقبيل «مصطفى النحاس» ليد الملك.. مع أن الثابت تاريخياً أن زعيم الأمة كان فى أقوى حالاته فى تلك الفترة التى ألغى فيها معاهدة «1936» التى سبق أن وقعها هو نفسه مع الإنجليز.. كما سمح للفدائيين بالقتال فى القناة ضد الإنجليز واتخذ إجراءات عنيفة ضد الاحتلال وضد من تعامل مع جنود الإنجليز فى مصر.. وفى عهده سحبت حكومة الوفد كل العمال المصريين من القاعدة الإنجليزية فى مصر.. والحدث الذى يخاصم المنطق يستند إلى أن «حسين سرى باشا» رئيس الديوان الذى أدلى بتلك الشهادة أمام محكمة الثورة ليس هناك سبب يدعوه إلى الاختفاء خلف الستار لمدة ساعة ونصف الساعة ليشاهد تقبيل «النحاس» ليد الملك.. ألم يكن حرياً بـ«فاروق» أن يستدعى الصحفيين لتسجيل تلك الواقعة الفريدة فوتوغرافياً لتكون شاهدة على ألد أعدائه هو وأبيه؟!
ويرى «الوفديون» أن زعيم الأمة لم ينحنِ أمام الملك مجرد انحناء أمام طاغية.. ويكفى «النحاس» شرفاً أنه عندما انتقل إلى جوار ربه (1965) بعد ثلاثة عشر عاماً من الانقلاب العسكرى فى يوليو 1952 ونشر الخبر فى أربعة أسطر على عمود واحد بـ«الأهرام»، يومها خرجت القاهرة فى جنازة من مليون مواطن لتشييعه إلى مقره الأخير وكان تعليق «عبدالناصر» لمرافقيه يومها أن هذه الجنازة قد شطبت ثلاثة عشر عاماً من عمر الثورة.
كما تناول الهجوم على «وحيد حامد» كثيراً من الأحداث التى ربطت بين الثورة ممثلة فى مجلس قيادتها وعلى رأسها «جمال عبدالناصر» فى علاقتها بالإخوان المسلمين.. وبـ«سيد قطب» فى تلك المرحلة المهمة من تاريخ مصر قبل الثورة وبعدها.
وفى الحقيقة فأنا أرى أن السبب الرئيسى فى ردود الأفعال الغاضبة تلك.. والبلبلة والجدل الذى يأخذ اتجاهات متضاربة ويتسبب فى التباسات حادة يكمن فى طريقة رسم الشخصيات، وهى أحد العناصر المهمة فى البناء الدرامى للعمل الفنى المرئى سواء كان مسلسلاً أو فيلماً سينمائياً.. وخاصة إذا كان هذا العمل الفنى يحتوى على شخصيات حقيقية ذات تأثير كبير على الحياة السياسية فى مصر فى فترة من الفترات.. بل إنى أتصور أن رسم الشخصيات هو أهم أركان البناء الدرامى فهو الذى يقودها أو يدفعها إلى الأمام من خلال الأحداث وتواترها وتصاعدها بالاشتباك مع الواقع المعاش والتأثيرات المتبادلة بينهما.. وصولاً إلى الهدف الرئيسى للعمل الفنى.
فـ«سيد قطب» مثلاً الذى يمتلئ مشوار حياته بالانعطافات الحادة والانقلابات والتغييرات العنيفة والتناقضات المدهشة.. حيث يصفه «عادل حمودة» فى كتابه عنه بأنه بدأ معلماً وانتهى.. زعيماً.. وبدأ ناقداً للأدب (وكان أول من تنبه إلى ثلاثية نجيب محفوظ وأشاد بها وسمى فيما بعد بـ«الأديب الشهيد»)، وانتهى متشدداً متطرفاً ناقماً على الثورة مكفراً للمجتمع.
وبدأ شاعرنا رقيق الحس ينظر للحياة بنظرة فنان وانتهى غاضباً ساخطاً متمرداً محرضاً على الكفاح المسلح ضد حكم «عبدالناصر».. وفى النهاية فإن المحصلة أن مسيرته تخلو من أى منطق خاص أو أى ضرورة حتمية تحركها.. بل تبدو شخصيته مثل سفينة تتحكم فيها رياح قدرية لا تعرف من أين تهب ولا متى تشتد ولا إلى أين سيكون المصير..
ومع ذلك بدا من خلال أحداث المسلسل أن «جمال عبدالناصر» تأثر تأثراً كبيراً بآراء «سيد قطب» وحرص على استشارته دائماً، بل ويخصه بمفرده بذلك الاهتمام على الرغم من أن الثابت أن «إحسان عبدالقدوس» و«حلمى سلام» و«أحمد أبوالفتح» كانوا هم المقربين منه فى تلك الفترة.. وكانوا أكثر المؤيدين للحركة التى سميت بعد ذلك بالثورة.. بل إن «إحسان عبدالقدوس» كتب روايته المهمة «لا تطفئ الشمس» ونسج أحداثها ورسم شخصياتها من وحى تلك الثورة الوليدة.. وتعبيراً عن طموحاتها فى تغيير الواقع الاجتماعى والسياسى للبلاد.
ويطرح «وحيد حامد» عدة مواقف مهمة «لسيد قطب» استنار «عبدالناصر» برأيه فيها بل تبنى هذه المواقف بحماس بالغ منها إصدار قانون الإصلاح الزراعى وحل الأحزاب والإبقاء على جماعة الإخوان المسلمين بينما فى المقابل مثلاً رفض مناقشة قانون الإصلاح الزراعى مع رئيس الوزراء وقتها «على ماهر» بل سعى إلى إقالته من منصبه.
بل إن المدهش فى الأمر مواصلة الإعجاب بـ«سيد قطب» والسعى لتعيينه وزيراً للمعارف.. رغم ظهور بوادر اللوثة التى أصابت عقله ووجدانه وتطرفه المقيت حينما كتب فى «الرسالة» وطلب من «عبدالناصر» والضباط الأحرار إخراس الأصوات الدنسة.. ويذكر بعض أصحاب تلك الأصوات وهم «عبدالوهاب» و«محمد فوزى» و«فريد الأطرش» و«أم كلثوم» و«عبدالعزيز محمود» و«ليلى مراد».. ويصب على هؤلاء الفنانين أقذع الصفات مثل أنهم مخلوقات شائهة بائسة ويقول أيضاً «إن هذا الطابور المترهل الذى ظل يفتت صلابة هذا الشعب ويدنس رجولته وأنوثته هو المسئول عن نصف ما أصاب حياتنا الشعورية والقومية من تفكك وانحلال».. ويذهب إلى أن الفنانين كانوا أخطر على الشعب المصرى من «الملك فاروق» ذاته ويقول: «إن فساد فاروق وحاشيته ورجال الأحزاب ومن إليهم لم يدخل إلى كل بيت.. ولم يتسلل إلى كل نفس.. أما أغانى هذا الطابور وأفلامه فقد دخلت إلى البيوت وأفسدت الضمائر.. وحولت هذا الشعب إلى شعب مترهل لا يقوى على دفع ظلم أو طغيان» (راجع كتاب حلمى النمنم «سيد قطب وثورة يوليو»).
أما ما يتصل بعلاقة «جمال عبدالناصر» بالإخوان والزعم بأنه التحق بالجماعة وأقسم أمام «حسن البنا» مرشد الإخوان (على المصحف والمسدس) وفق العقيدة الإخوانية.. وهو القسم الذى يمثل مبايعة للمرشد وعهداً قاطعاً وحاسماً بالانتماء الكامل للجماعة.. فقد أدهشنى وأربكنى شخصياً مشهد تم بين «جمال عبدالناصر» وأحد أقطاب «الوفد».. يعلن فيه «جمال» -بعد نجاح تنظيم الضباط الأحرار فى تحقيق الأهداف الأولية المرجوة بانتزاع السلطة وطرد الملك وإعلان الثورة- غضبه وسخطه لعدم استجابة الإخوان لمساندة الحركة.. وأكد بصوت آسف لا يخلو من أسى وحسرة أنهم لم يقدموا بعد على تلك المساندة المتفق عليها سلفاً لخوفهم وعدم ثقتهم بنجاح الثورة.. فإذا اتفقنا جدلاً أن «عبدالناصر» تظاهر بترحابه لانضمام الإخوان للضباط فى حركتهم المباركة قبل الثورة باعتبار أنهم يمثلون قوة لا يستهان بها سوف تسهم فى تحقيق الثورة لأهدافها، فلماذا يبدى أسفه لنكوصهم لعهودهم.. ومصارحة أحد أقطابهم بذلك، وكان يمكن أن يتم هذا الحوار بينه وبين الزملاء من أعضاء مجلس قيادة الثورة لإظهار أنه كان يناور بدهاء مع الإخوان.. ولماذا يأسف من عدم مساندتهم بعد انحسار قوتهم بقيام الثورة؟!..
وتقودنا طريقة رسم شخصيات المسلسل إلى إصابتنا بالارتباك وعدم وضوح الرؤية خاصة شخصيتى «جمال عبدالناصر» و«المرشد» فـ«جمال» يبدو متردداً مرتجفاً.. لا خطة ولا منهج ولا تصور «أيديولوجى» واضح لديه.. شغله الشاغل طول الوقت موقفه من الإخوان.. هل يهادنهم؟!.. أم يتجاهلهم؟!.. يتودد إليهم أم يصطدم بهم.. هل يؤمن بأفكارهم ويحقق مطالبهم أم يلفظهم؟!.. وينعكس ذلك على اجتماعات مجلس قيادة الثورة التى من المفروض أن يسيطر عليها مناقشة قضايا وتحديات ضخمة أكثر أهمية من علاقتهم بالإخوان.. منها (تحقيق الديمقراطية أم الزحف نحو الديكتاتورية.. العودة إلى الثكنات أم البقاء فى السلطة.. طرد المستعمر الإنجليزى.. تذويب الفوارق بين الطبقات.. إلخ).
ومن هنا جاء أداء الممثل الذى جسد دور «عبدالناصر» باهتاً.. مضطرباً غير واضح فى أبعاده السياسية والاجتماعية والنفسية.. بينما جاء أداء «عبدالعزيز مخيون» فى دور المرشد مبهراً من خلال بناء درامى يبرز قوة إرادة الشخصية التى تعرف أهدافها وتتحرك فى اتجاه دورها المرسوم لها بثقة وقوة وإيمان.. وإن كان فى مشهده مع بناته عند مناقشة موضوع الحجاب بدا سمحاً ودوداً حليماً لطيفاً رقيقاً حنوناً ديمقراطياً يؤمن بالرأى والرأى الآخر.. يا إلهى.. إنه «فولتير» شخصياً الذى قال: إنى أعارضك فى رأيك ولكنى مستعد أن أدافع عن حقك فى إبداء رأيك حتى الموت.
لقد جعلنى «وحيد حامد» أحب فضيلة المرشد حباً جماً.