فى هذه الحلقة من سلسلة مقالات بعنوان «الصوم عن الكلام.. فضيلة غائبة» سنقوم بالحديث عن بعض الفضائل التى يمكن اكتسابها وبعض المهارات السلوكية والتربوية التى يمكن تنميتها من خلال الصوم عن الكلام، وبحيث يُعتبر الامتناع عن اللغو والحديث غير النافع مقدمة ضرورية لاكتساب هذه الفضائل والمهارات. ويأتى على رأس هذه المهارات ثقافة حسن الاستماع والتبصُّر والتدبُّر. فما دام اللسان لا ينطق ولا يتكلم، فإن الفرصة تكون سانحة لاستخدام الجوارح الأخرى، وأهمها السمع والبصر. وقد أشار الله عز وجل إلى أهمية هاتين النعمتين فى اكتساب المعرفة: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (سورة النحل: الآية 78). وقيل فى تفسير هذه الآية: وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة أى التى تعلمون بها وتدركون؛ وجعل لكم السمع لتسمعوا به الأمر والنهى، والأبصار لتبصروا بها آثار صنعه، والأفئدة لتصلوا بها إلى معرفته.
إن السمع هو المقدمة الطبيعية لغالب العمليات الفكرية والعقلية الموجهة للسلوك البشرى التنموى، سواء كان تعليمياً أو تدريبياً أو توجيهياً. والسماع هو مفتاح الفهم والتأثر والاقتناع والتشبع بالأفكار. ولذلك يقول ابن القيم: «السماع أصل العقل وأساسه ورائده وجليسه ووزيره، ولكن الشأن كل الشأن فى المسموع... وحقيقة السماع تنبيه العقل على معانى المسموع وتحريكه طرباً وهرباً وحباً وبغضاً» (مدارج السالكين). وقيل إن «أول العلم الصمت ثم حسن الاستماع». وقيل: «إذا جالست العلماء فكن حريصاً أن تسمع أكثر من أن تقول». وقال أعرابى: «لا ينتفع الرجل بالقول إلا بحسن الاستماع».
ولا تقتصر أهمية ثقافة حسن الاستماع على الاستفادة من تجارب الآخرين والانتفاع من آرائهم وأفكارهم، وإنما هو السبيل أيضاً لحصول المودة والتآلف والاحترام المتبادل. فالإصغاء مهارة مهمة تخلق نوعاً من الثقة والمودة المتبادلة وتعزز التفاهم والتواصل، ويُعد عاملاً مهماً للنجاح فى الحياة العامة والخاصة، وهو ما يطلق عليه «الذكاء الاجتماعى». ولا مراء فى أن معظم المشاكل التى تعانى منها المجتمعات المعاصرة تجد مصدرها وسببها الرئيسى فى عدم الإلمام بهذه المهارة واختفاء ثقافة الاستماع وأدب الحوار واحترام الاختلاف فى الرأى بين بنى البشر. فما أجمل أن تكون مسموعاً، وما أعظم الأثر الذى يحدثه حسن استماعك لحديث الآخر!
ولكى تتحقق الفوائد آنفة الذكر، ينبغى أن ينمى الإنسان ثقافة حسن الاستماع، وهى مهارة يعطى فيها المستمع للمتحدث كل اهتمامه، ويركز انتباهه إلى حديثه. وتتطلب هذه الثقافة الالتزام ببعض القواعد، وهى: الإقبال بالوجه نحو المتحدث واستخدام حاسة البصر للمساعدة فى الاستماع؛ ملاحظة التعبيرات النفسية والعاطفية والحركية المختلفة للمتحدث أثناء الحديث؛ إعطاء الفرصة كاملة للمتحدث ليعبّر عن مراده؛ تجنب الحكم على الحديث قبل انتهاء الاستماع وعدم مقاطعة المتحدث حتى ينتهى من عرض فكرته؛ محاولة فهم الموضوع كما يريده المتحدث لا كما يريده السامع.
وقد علمنا النبى صلى الله عليه وسلم هذه الثقافة، حين جاءه عتبة بن ربيعة، فاستمع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يقاطعه بشىء. فلما فرغ عتبة، قال صلى الله عليه وسلم: «أفرغت يا أبا الوليد؟». قال: نعم. قال صلى الله عليه وسلم: «فاسمع منى». ويقول أحد الصالحين: «لجليسى علىّ ثلاث خصال: إذا أقبل وسّعت له فى المجلس. وإذا جلس أقبلت عليه. وإذا حدّث سمعت منه». وهذا السلوك الحكيم من حسن الاستماع كان يوصى به الحكماء أبناءهم، فقال حكيم لابنه: يا بنى تعلّم حسن الاستماع كما تتعلم حسن الكلام، فإن حسن الاستماع إمهالك المتكلم حتى ينتهى من حديثه، والإقبال بالوجه والنظر إليه، وترك المشاركة فى حديث أنت تعرفه، حتى لا تقاطعه فتغضبه. يقول الشاعر: وتراه يصغى للحديث بسمعه... وبقلبه ولعله أدرى به.
إن حسن الاستماع من القيم الفاضلة والعادات الحميدة والسلوكيات الحضارية، وهو أحد عناصر التواصل الصحيح فى محيط الأسرة والعمل والحياة بوجه عام، وهو يعنى الاهتمام والتقدير لما يقوله الآخر، وما أحوجنا لهذه القيم فى العصر الحالى!!!