بدأ المجلس الأعلى للإعلام ممارسة دوره فى مراقبة الأداء الإعلامى، بادئاً بالدراما التى تم عرضها فى شهر رمضان. وضعت «لجنة الرصد»، التابعة للمجلس، تقريراً شمل التحفظات على ما رأته «تجاوزاً»، لا بد من ضبطه، سواء فى لغة الحوار أو مشاهد تخللت المعالجات الدرامية، وأعلن السيد النائب حسن هيكل، رئيس اللجنة الثقافية والفنية بالبرلمان، أن دولاً عربية رفضت شراء بعض الأعمال؛ لما تضمنته من لغة ومشاهد لا تتفق والقيم أو لا تتسق والشهر الكريم، كما أن هناك غرامة مائتى ألف جنيه للقناة التى تبث ما يسىء لأخلاق المجتمع، ومائة ألف جنيه لأى محطة إذاعية تقوم بنفس الشىء، ثم أضاف أن هناك عشرة بالمائة من المبلغ لأى مواطن يقوم بالإبلاغ عن واقعة تندرج تحت ما سبق. على جانب مقابل أعلن بعض النقاد وبعض الممارسين للعمل الفنى عن تحفظات إزاء فكرة «الضبطية»، ورفعوا شعار أن أحداً لا يجبر متلقياً على مشاهدة ما يراه متعارضاً مع القيم، وأنه «حر» فى استخدام الريموت كنترول.. مش عاجبك غير القناة. المداخلات من الناس، عبر البرامج التى ناقشت القضية، كانت فى معظمها تعرب عن عدم الراحة إزاء كثير مما تعرضه الشاشات، وكونه متعارضاً مع المشاهدة الأسرية، وكيف أنه، حتى مع وجود تحذير بأن ما يعرض غير مسموح بمشاهدته لأقل من ثمانية عشر أو ستة عشر عاماً، فإن هناك صعوبة فى السماح به لعدم قدرة الأسر على حجب المشاهدة عن أبناء لهم دون السنة، وانضم الفنان محمد صبحى مؤكداً أن الفن انتقاء وشجاعة فى الاستبعاد، يعنى أنه يمكن تناول أى مضمون وعلى الفنان أن ينتقى ويستبعد، دون الوقوع فى براثن التعارض وقيم المجتمع. من ناحية أخرى كانت هناك وجهة نظر أن ما يعرض إنما يستمد مادته الخام مما يجرى فى المجتمع، يعنى الدراما صدى أو تعبير عن مجريات الحياة الواقعية، كما أن هناك جهة بالفعل مهمتها الرقابة على الأعمال الفنية، وبالتالى لا معنى لتعدد الجهات الرقابية، وأن الجودة الفنية سوف تتكفل بتنقية وغربلة ما يعرض ولن يصمد إلا العمل الجيد، وأن ما يتم الاعتراض عليه من فجاجة أو سوقية أو... أو...، إنما هى أعمال تعبر أولاً عن ضعف فنى، أو فشل أصحابها فى الإمساك بـ«كود الفن».
أولاً: لا أحد سعيد بأغلب ما تعرضه الشاشات، ليس فقط من المنظور الأخلاقى، الذى هو فى جوهره منظور خلافى، بل من حيث الضعف وافتقاد الثقافة والركاكة والتفاهة واتساع مساحة اللغو الفارغ إلى مدى ربما هو الأوسع منذ دخل التليفزيون حياتنا. ما يضرب المجتمع ليس فقط المشاهد التى تتخلل أعمالاً يقال إنها فنية، أو الألفاظ السوقية المباشرة، لكن الحقيقة أن المأساة هى غياب «الفن» أصلاً.. وأغلب ما نشتكى منه يسهل جداً إدراجه تحت أى مسمى غير كونه «أعمالاً فنية».
عندما كانت مصر تزخر وتفيض وتزهر بالطاقات، كانت تطرح وتناقش بالأدوات الفنية كل القضايا، وسوف أستعير من زميلى الناقد الأستاذ طارق الشناوى المثل الذى استخدمه للتدليل على أن الآفة «فنية» فى جانب كبير منها.. فيلم شباب امرأة الذى كان موضوعه فى جوهره عن امرأة مسكونة بالرغبة، وكيف بمنتهى الرهافة والرشاقة تم التعبير دون أى فجاجة.. هناك أسئلة عديدة يطرحها الموضوع.. أسئلة أعمق من مجرد إشكالية فكرة الرقابة ذاتها، والمدى الذى يمكن من خلاله ضمان منتج فنى حقيقى.. أسئلة متعلقة بالواقع الذى نعيشه وبالمستوى الفنى.. أسئلة متعلقة بفكرة العيش فى لحظة تاريخية يستطيع أى واحد أن يضغط على زرار على جهاز الكومبيوتر أو التليفون الذكى، فيأتى بأكثر بكثير مما يعرضه التليفزيون. ماذا يفعل الناس فى المجتمعات التى سبقتنا فى التجربة؟
أولاً: العلاقة بالتليفزيون، وبفكرة المشاهدة ذاتها، مفروض أن تخضع لدور أسرى، هو غائب عندنا.. أحد الآباء قالها بصراحة إنه لا يمكنه أن يتحكم فيما يشاهده أو لا يشاهده الأولاد، يعنى باختصار على الدولة أن تساعده بالحجب.. طيب وما العمل إذا راقبت الدولة التليفزيونات، ماذا عن بقية المنافذ؟
ماذا لو فكرنا بطريقة مختلفة، وبدلاً من أن يقتصر «منهجنا» أو «القصد» على المراقبة والتبليغ، وأن نقول إن الغرامات سوف تذهب إلى دعم أعمال جيدة، يكون التركيز والهدف أن نتعمد أو «نقصد» إنتاج «فن» بالمعايير الحقيقية.. أن نعى أنه فى مثل ظروفنا، هناك «ضرورة ثقافية» وضرورة اجتماعية، وأنه مهما كانت الغرامات على التجاوزات، فلن يكون بها وحدها اعتدال الأمور وأن الحل فى إنتاج يواجه كيانات لا تفكر إلا فى الربح، ومستعدة لتقديم أى شىء لتحقيق هذا الهدف، مواجهتها تكون بإنتاج فن حقيقى.. أن تؤمن الدولة بأن دعم الفيلم أو المسلسل «الفنى»، ليس رفاهة، وأنه سلاح لمقاومة الهدم والسوقية وبناء الناس؟
لما كان تليفزيون الدولة على قيد الحياة، كانت المنافسة بين الجيد جداً والأجود (شاهدنا فى عام واحد ليالى الحلمية ورأفت الهجان).. نعم، الآن هناك أزمة اقتصادية، لكن يمكن أن يكون هناك أيضاً حلول تدخل فيها البنوك على سبيل المثال.. طلعت حرب أسس لبناء مصر الحديثة بثلاثة: البنك والمصنع والفيلم.